فذمهم الله لما لم يرعوها ، وقد يكون في الكلام تقديم وتأخير ، كأنه يقول : فما رعوها حق رعايتها إلا ابتغاء رضوان الله ، وكذلك اعتقدوا ، يعني المراعين لها (فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا) بها (مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ) (وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ) أي من هؤلاء الذين شرع فيهم هذه العبادة (فاسِقُونَ) أي خارجون عن الانقياد إليها والقيام بحقها. وتدل هذه الآية على أن الاجتهاد ومشروعيته كان مقررا فيما سبقنا من الأمم ، فإنهم ما ابتدعوها إلا باجتهاد منهم وطلب مصلحة عامة أو خاصة ، وأثنى على من رعاها حق رعايتها ، وذكر هذا في بني إسرائيل ، وفي شرعنا من هذه الرهبانية من سن سنة حسنة ، وهذا هو عين الابتداع ، فهي في هذه الأمة السنن التي ابتدعت على طريق القربة إلى الله ، وهو قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة من غير أن ينقص من أجورهم شيئا] فأجاز لنا ابتداع ما هو حسن ، وجعل فيه الأجر لمن ابتدعه ولمن عمل به ، فالخير يطلب الثواب بذاته ، والشرع مبين توقيت ذلك الثواب ، لما جمع عمر بن الخطاب الناس على أبّي في قيام رمضان ، قال : نعمت البدعة هذه ؛ فسماها بدعة ، ومشت السنة على ذلك إلى يومنا هذا ، فاستمر الشرع والعبادة المرغب فيها مما لا ينسخ حكما ثابتا إلى يوم القيامة ، وهذا الحكم خاص بهذه الأمة ، وأعني بالحكم تسميتها سنة ، تشريفا لهذه الأمة ، وكانت في حق غيرها من الأمم السالفة تسمى رهبانية ابتدعوها ، فمن قال : بدعة في هذه الأمة مما سماها الشارع سنة فما أصاب السنة ، إلا أن يكون ما بلغه ذلك ، والاتباع أولى من الابتداع ، والفرق بين الاتباع والابتداع معقول ، ولهذا جنح الشارع إلى تسميتها سنة وما سماها بدعة ، لأن الابتداع ، إظهار أمر على غير مثال ، هذا أصله ، فلو شرع الإنسان اليوم أمرا لا أصل له في الشرع لكان ذلك إبداعا ، ولم يكن يسوغ لنا الأخذ به ، فعدل الشارع إلى لفظ السنة إذ كانت السنة مشروعة ، وقد شرع لمحمد صلىاللهعليهوسلم الاقتداء بهدي الأنبياء عليهمالسلام.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَآمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِن رَّحْمَتِهِ وَيَجْعَل لَّكُمْ نُورًا تَمْشُونَ بِهِ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (٢٨)
(وَيَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ) وهو النور الذي تنظر به عين البصيرة ، وهو علم اليقين ،