كتابا لضم حروفه بعضها إلى بعض ، وضم معانيه إلى حروفه ، مأخوذ من كتيبة الجيش ، وهو كتاب مبسوط للرحمة ، لأنه منها نزل كما قال تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ) وقد قال تعالى في ذلك (كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ) وهنا قال تعالى : (قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ) فإحكام الآيات وتفصيلها لا يعرفه إلا من آتاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وصورة الحكمة التي أعطاها الحكيم الخبير لأهل العناية ، علم مراتب الأمور وما تستحقه الموجودات والمعلومات من الحق الذي هو لها ، وهو إعطاء كل شيء خلقه إعطاء إليها ، ليعطي كلّ خلق حقه إعطاء كونيا بما آتانا الله ، فنعلم بالقوة ما يستحقه كل موجود في الحدود ، ونفصله بعد ذلك آيات بالفعل لمن يعقل كما أعطانيه الخبير الحكيم ، فننزل الأمور منازلها ونعطيها حقها ، ولا نتعدى بها مراتبها ، فتفصيل الآيات من المفصّل إذا جعلها في أماكنها بهذا الشرط ـ لأنه ما كل مفصّل حكيم ـ دليل على أنه قد أوتي الحكمة وعلم إحكام آياته ، ورحمته بالآيات والموجودات التي هي الكتاب الإلهي وليس إلا العالم ـ فإن العالم كله كتاب مسطور في رق منشور ، وهو الوجود ـ دليل على علمه بمن أنزله وليس إلا الرحمن الرحيم ، وخاتمة الأمر ليست سوى عين سابقتها ، وسوابقها الرحمن الرحيم ، فمن هنا تعلم مراتب العالم ومآله أنه إلى الرحمة المطلقة ، وإن تعب في الطريق وأدركه العناء والمشقة ، فمن الناس من ينال الرحمة والراحة بنفس ما يدخل المنزل الذي وصل إليه وهم أهل الجنة ، ومنهم من يبقى معه تعب الطريق ومشقته ونصبه بحسب مزاجه ، وربما مرض واعتل زمانا ثم انتقل من دائه واستراح وهم أهل النار الذين هم أهلها ، ما هم الذين خرجوا منها إلى الجنة فمستهم النار بقدر خطاياهم مع كونهم أماتهم الله فيها إماتة ، فإن أولئك ليست النار منزلا لهم يعمرونه ويقيمون فيه مع أهليهم ، وإنما النار لهؤلاء منهل من المناهل التي ينزلها المسافر في طريقه حتى يصل إلى منزله الذي فيه أهله ، فهذا معنى الحكمة والتفصيل ، فمن كشف التفصيل في عين الإجمال علما أو عينا أو حقا فذلك الذي أعطاه الله الحكمة وفصل الخطاب ، وليس إلا الرسل والورثة خاصة.
(بَشِيرًا وَنَذِيرًا فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ (٤) وَقَالُوا قُلُوبُنَا فِي أَكِنَّةٍ مِّمَّا تَدْعُونَا إِلَيْهِ وَفِي آذَانِنَا وَقْرٌ وَمِن بَيْنِنَا وَبَيْنِكَ حِجَابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنَا عَامِلُونَ) (٥)