بعد أن كان مغمورا ومستورا ومقهورا تحت سلطنة النفس وآثارها ، وكما أن الحق ما تجلى لشيء قط ثم انحجب عنه بعد ذلك ، كذلك من كتب الله في قلبه الإيمان فإنه لا يمحوه أبدا ، ومن هؤلاء نواب الحق ، فما كذبوا شيئا مما له وجود في الكون ووجدوا له مصرفا ، ولذلك قال : (وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ) فهذا المؤيد به إذا توجه على معدوم أوجده ، وعلى معدل مسوى نفخ فيه روحا (وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ) إن أردت أن تكون من عباد الله الذين اختصهم لخدمته ، واصطنعهم لنفسه ، ورضي عنهم فرضوا عنه ، فتطهّر بالموافقة من المخالفة ، وكن فيما يرضيه سبحانه من الأعمال في الأقوال والأفعال والأحوال (أُولئِكَ حِزْبُ اللهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) فما يدري أحد ما لهم من المنزلة عند الله ، لأنهم ما تحركوا ولا سكنوا إلا في حق الله لا في حق أنفسهم ، إيثارا لجناب الله على ما يقتضيه طبعهم.
(٥٩) سورة الحشر مدنيّة
بسم الله الرحمن الرحيم
(سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١)
اعلم ـ فهمك الله ـ أن كل ما سوى الله أرواح مطهرة منزهة موجدها وخالقها ، وهي تنقسم إلى : مكان وإلى متمكن ، والمكان ينقسم إلى قسمين : مكان يسمى سماء ومكان يسمى أرضا ، والمتمكن فيهما ينقسم إلى قسمين ، إلى متمكن فيه (١) وإلى متمكن عليه ، فالمتمكن فيه يكون بحيث مكانه ، والمتمكن عليه لا يكون بحيث مكانه ، وهذا حصر كل ما سوى الله ، وكل ذلك في الحقيقة أجسام وجواهر في الحق المخلوق به ، وهذه الأرواح على مراتب في التنزيه تسمى مكانة ، وما من منزه لله تعالى إلا وتنزيهه على قدر مرتبته ، لأنه لا ينزه خالقه ، إلا من حيث هو ، إذ لا يعرف إلا نفسه ، فيثمر له ذلك التنزيه عند
__________________
(١) المتمكن فيه هي أرواح الأجسام.