الصور بأبصاركم إلى ما تعطيه تلك الصور من المعاني والأرواح في بواطنكم ، فتدركونها ببصائركم ، فأمر وحث على الاعتبار ، وهذا باب أغفله العلماء ولا سيما أهل الجمود على الظاهر ، فليس عندهم من الاعتبار إلا التعجب ، فلا فرق بين عقولهم وعقول الصبيان الصغار ؛ فهؤلاء ما عبروا قط من تلك الصورة الظاهرة كما أمرهم الله ، وإذا ارتقى الإنسان في درج المعرفة علم أنه نائم في حال اليقظة المعهودة ، وأن الأمر الذي هو فيه رؤيا إيمانا وكشفا ، ولهذا ذكر الله أمورا واقعة في الحس وقال : (فَاعْتَبِرُوا) وقال : (إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً) أي جوزوا واعبروا مما ظهر لكم من ذلك إلى علم ما بطن به وما جاء له ، قال صلىاللهعليهوسلم : [الناس نيام فإذا ماتوا انتبهوا] ولكن لا يشعرون ، ولهذا قلنا : إيمانا ، فالإنسان في الدنيا في رؤيا ولذلك أمر بالاعتبار ، فإن الرؤيا قد تعبر في المنام ، فإذا كان بلسان الصادق صلىاللهعليهوسلم الحس خيالا والمحسوس متخيلا ، وجعلك نائما في الحال الذي تعتقد أنك فيه صاحب يقظة وانتباه ، فإذا كنت في رؤيا في يقظتك في الدنيا ، فكل ما أنت فيه هو أمر متخيل مطلوب لغيره ، ما هو في نفسه على ما تراه ؛ فاليقظة والحس الصحيح الذي لا خيال فيه في النشأة الآخرة ، ولذلك قال تعالى : (فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ) أي جوزوا مما أعطاكم البصر بنوره مما أدركه من المبصرات وأحكامها إلى ما تدركونه بعين بصائركم شهودا ، وهو الأتم الأقوى ، أو عن فكرة وهو الشهود الأدنى عن المرتبة العليا ، وكلاهما عابر عما ظهر إلى ما استسرّ وبطن ، فهم أولو أبصار بالاعتبار في مخلوقاته. واعلم أن أهل الاعتبار يكون منهم أصحاب أذواق ، ويعتبرون عن ذوق لا عن فكر ، وقد يكون الاعتبار عن فكر ، فيلتبس على الأجنبي بالصورة ، فيقول عن كل واحد إنه معتبر ومن أهل الاعتبار ، وما يعلم أن الاعتبار قد يكون عن فكر وعن ذوق ، والاعتبار في أهل الأذواق هو الأصل ، وفي أهل الأفكار فرع ، وصاحب الفكر ليس من أهل الإرادة إلا في الموضع الذي يجوز له الفكر فيه إن كان ثمّ ما لا يمكن أن يحصل الأمر المفكّر فيه إلا به ـ بفتح الكاف ـ فحينئذ يأخذه من بابه ، وهل ثمّ أمر بهذه المثابة لا يمكن أن ينال من طريق الكشف والوجود أم لا؟ فنحن نقول : ما ثمّ ، ونقول : إن الكشف أتم في التحصيل ، لأن الكشف يعيّن لك العلة على خصوصها ، والاعتبار الفكري يجملها لك من غير تعيين ، أو يخرج عللا محتملة.
(وَلَوْلَا أَن كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاء لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذَابُ