في الاستطاعة ، فلا ينبغي أن ننفيه عن الموضع الذي أثبته الحق فيه ، ولو لا ما ظهر العبد بالدعوى ما قيل له (فَاتَّقُوا اللهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ) بالقوة التي جعلتها لكم فيكم بين الضعفين ، فمن تنبه على أن قوته مجعولة ، وأنها لمن جعلها لم يدع فيها ، بل هي أمانة عنده ، لا يملكها ، والإنسان لا يكون غنيا إلا بما يملكه ، والأمانة عارية لا تملك ، مأمور من هي عنده بردها إلى أهلها ، وهو قوله [لا حول ولا قوة إلا بالله] أي القوة قائمة بالله لا بنا ، فالمدعون في القوة يجعلون (مَا) في قوله (مَا اسْتَطَعْتُمْ) مصدرية ؛ وأهل التبري يجعلونها للنفي في الآية ، فنفى عندهم الاستطاعة في التقوى ، وأثبتها عند من جعلها مصدرية ـ إشارة ـ لما فتح الله باب الرحمتين ، وبان الصبح لذي عينين ، أوقف الحق من عباده من شاء بين يديه ، وخاطبه مخبرا بما له وعليه ، وقال له : إن لم تتق الله جهلته ، وإن اتقيته كنت به أجهل ، ولابد لك من إحدى الخصلتين ، فلهذا خلقت لك الغفلة حتى تتعرى عن حكم الضدين ، وكذا النسيان ، لأنه بدون الغفلة يظهر حكم أحدهما ، فاشكر الله على الغفلة والنسيان. (وَاسْمَعُوا وَأَطِيعُوا وَأَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ ، وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ) الشح في الحيوان من أثر الطبيعة ، وأوفره في الإنسان لما ركبّه الله عليه في نشأته من وفور العقل وتحكيم القوى الروحانية والحسية ، وقد جبله الله على الحرص والطمع أن يكون كل شيء له وتحت حكمه ، فالإنسان مجبول على العجز والبخل ، قال تعالى : (وَإِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً) من نظر في هذا الأصل زكت نفسه وتطهر من الدعوى (فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) ـ تحقيق ـ المخلوق ضعيف ، ولو لا المصالح ما شرع التكليف ، فخذ ما استطعت ، ولا يلزمك العمل بكل ما جمعت ، فإن الله ما كلف نفسا إلا ما آتاها ، وجعل لها بعد عسر يسرا لما تولاها ، وشرع في أحكامه المباح ، وجعله سببا للنفوس في السراح والاسترواح إلى الانفساح ، ما قال في الدين برفع الحرج ، إلا رحمة بالأعرج ، وعلى منهج الرسول صلىاللهعليهوسلم درج ، دين الله يسر ، فما يمازجه عسر ، بعث بالحنيفية السمحا ، والسنة الفيحا ، فمن ضيق على هذه الأمة ، حشر يوم القيامة مع أهل الظلمة.
(إِن تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعِفْهُ لَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (١٧) عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ) (١٨)