له نشأة أخرى يركبه فيها في الآخرة ، فقال تعالى (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ) أي يختبر عقولكم بالموت والحياة (أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) بالخوض فيهما والنظر ، فيرى من يصيب منكم ومن يخطىء ؛ واعلم أن القوى كلها التي في الإنسان وفي كل حيوان ، ـ مثل قوة الحس وقوة الخيال وقوة الحفظ والقوة المصورة وسائر القوى كلها المنسوبة إلى جميع الأجسام علوا وسفلا ـ إنما هي للروح ، تكون بوجوده وإعطائه الحياة لذلك الجسم ، وينعدم فيها ما ينعدم بتوليه عن ذلك الجسم من ذلك الوجه الذي تكون عنه تلك القوة الخاصة ، فإذا أعرض الروح عن الجسم بالكلية زال بزواله جميع القوى والحياة ، وهو المعبر عنه بالموت ، كالليل بمغيب الشمس ، وأما بالنوم فليس بإعراض كلي ، وإنما هي حجب وأبخرة تحول بين القوى وبين مدركاتها الحسية مع وجود الحياة في النائم ، كالشمس إذا حالت السحب بينها وبين موضع خاص من الأرض ، يكون الضوء موجودا كالحياة ، وإن لم يقع إدراك الشمس لذلك الموضع الذي حال بينه وبينها السحاب المتراكم ، وكما أن الشمس إذا فارقت هذا الموضع من الأرض وجاء الليل بدلا منه ، ظهرت في موضع آخر بنوره أضاء به ذلك الموضع ، فكان النهار هنالك كما كان هنا ، كذلك الروح إذا أعرض عن هذا الجسم الذي كانت حياته به ، تجلى على صورة من الصور الذي هو البرزخ ـ وهو بالصاد جمع صورة ـ فحييت به تلك الصورة في البرزخ ، وكما تطلع الشمس في اليوم الثاني علينا فتستنير الموجودات بنورها ، كذلك الروح يطلع في يوم الآخرة على هذه الأجسام الميتة فتحيا به ، فذلك هو النشر والبعث ؛ واعلم أن الحياة في جميع الأشياء حياتان : حياة عن سبب وهي الحياة التي ذكرناها ونسبناها إلى الأرواح ، وحياة أخرى ذاتية للأجسام كلها كحياة الأرواح للأرواح ، غير أن حياة الأرواح يظهر لها أثر في الأجسام المدبرة بانتشار ضوئها فيها وظهور قواها التي ذكرناها ، وحياة الأجسام الذاتية لها ليست كذلك ، فإن الأجسام ما خلقت مدبرة ، فبحياتها الذاتية ـ التي لا يجوز زوالها عنها فإنها صفة نفسية لها ـ بها تسبح ربها دائما ، سواء كانت أرواحها فيها أو لم تكن ، وما تعطيها أرواحها إلا هيئة أخرى عرضية في التسبيح بوجودها خاصة ، وإذا فارقتها الروح فارقها ذلك الذكر الخاص ، وهو الكلام المتعارف بيننا المحسوس ، تسبيحا كان أو غيره ، ولكل صورة في العالم روح مدبرة وحياة ذاتية ، تزول الروح بزوال تلك الصورة ، وتزول الصورة بزوال ذلك الروح ، والحياة الذاتية لكل