جوهر فيه غير زائلة ، وبتلك الحياة الذاتية ـ التي أخذ الله بأبصار بعض الخلق عنها ـ بها تشهد الجلود يوم القيامة على الناس والألسنة والأيدي والأرجل ، وبها تنطق فخذ الرجل في آخر الزمان فتخبر صاحبها بما فعل أهله ، وبها تنطق الشجرة في آخر الزمان إذا اختفى خلفها اليهود حين يطلبهم المسلمون للقتل ، فتقول للمسلم إذا رأته يطلب اليهودي [يا مسلم هذا يهودي خلفي فاقتله] وإنما كانت هذه الحياة في الأشياء ذاتية لأنها عن التجلي الإلهي للموجودات كلها ، لأنه خلقها لعبادته ومعرفته ، ولا أحد من خلقه يعرفه إلا أن يتجلى له فيعرفه بنفسه ، إذ لم يكن في طاقة المخلوق أن يعرف خالقه ، والتجلي دائم أبدا مشاهد لكل الموجودات ظاهرا ، ما عدا الملائكة والإنس والجن ، فإن التجلي لهم الدائم إنما هو فيما ليس له نطق ظاهر ، كسائر الجمادات والنباتات ، وأما التجلي لمن أعطي النطق والتعبير عما في نفسه وهم الملائكة والإنس والجن من حيث أرواحهم المدبرة لهم وقواها ، فإن التجلي لهم من خلف حجاب الغيب ، فالمعرفة للملائكة بالتعريف الإلهي لا بالتجلي ، والمعرفة للإنس والجن بالنظر والاستدلال ، والمعرفة لأجسامهم ومن دونهم من المخلوقات بالتجلي الإلهي ، وذلك لأن سائر المخلوقات فطروا على الكتمان فلم يعطوا عبارة التوصيل ، وأراد الحق ستر هذا المقام رحمة بالمكلفين ، إذ سبق في علمه أنهم يكلفون وقد قدّر عليهم المعاصي ، فلهذا وقع الستر عنهم ، لأنهم لو عصوه بالقضاء والقدر على التجلي والمشاهدة لكان عدم احترام عظيم وعدم حياء ، وكانت المؤاخذة عظيمة ، فكانت الرحمة لا تنالهم أبدا ، ولهذا كانت الغفلة والنسيان من الرحمة التي جعلها الله لعباده ، وما كلّف الله أحدا من خلقه إلا الملائكة والإنس والجن ، وما عداهم فإن دوام التجلي لهم أعطاهم الحياة الذاتية الدائمة ، وهم في تسبيحهم مثلنا في أنفاسنا (لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً) فأحسن المؤمنون فسعدوا ، ولم يحسن الكفار فخسروا (وَهُوَ الْعَزِيزُ) المنيع الحمى عن أن يدركه خلقه ، أو يحاط بشيء من علمه إلا بما شاء ، وهو (الْغَفُورُ) الذي ستر العقول عن إدراك كنهه أو كنه جلاله ، ولو كشف لكل أحد ما كشفه لبعض العالم لم يكن غفورا ، ولا كان فضل لأحد على أحد ، إذ لا فضل إلا بمزيد العلم.
(الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ