وَإِمَّا كَفُوراً) راجع للمخاطب الملكف ، فإن نوى الخير أثمر خيرا ، وإن نوى الشر أثمر شرا ، فإن الله لما بين السبيل للعبد إلى سعادته جعله ذا اختيار في أفعاله ، ولهذا يصح منه القبول والرد ، ويعاقب ويثاب ، وعلى هذا قام أصل الجزاء من الله تعالى لعباده ، واعلم أن الله تعالى خلق جميع من خلق في مقام الذلة والافتقار ، وفي مقامه المعين له ، فلم يكن لأحد من خلق الله من هؤلاء ترقّ عن مقامه الذي خلق فيه إلا الثقلين ، فإن الله خلقهم في مقام العزة ، وفي غير مقامهم الذي ينتهون إليه عند انقطاع أنفاسهم التي لهم في الحياة الدنيا ، فلهم الترقي إلى مقاماتهم التي تورثهم الشهود ، والنزول إلى مقاماتهم التي تورثهم الوقوف خلف الحجاب ، فهم في برزخ النجدين (إِمَّا شاكِراً) فيعلو فله منزل السرور (وَإِمَّا كَفُوراً) فيسفل فله سوء المصير والثبور. قال تعالى (وَما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) فمن أراد طريق العلم والسعادة فلا يضع ميزان الشرع من يده نفسا واحدا ، فإن الله بيده الميزان لا يضعه ، وكذلك ينبغي للمكلف بل للإنسان أن لا يضع الميزان المشروع من يده ما دام مكلفا ، فإن كل حركة في المكلف ومن المكلف وسكون ، لميزان الشرع فيه حكم ، فلا يصح وضعه مع بقاء الشرع.
(إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ سَلَاسِلَا وَأَغْلَالًا وَسَعِيرًا (٤) إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِن كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا) (٥)
أهل الجنة لا يظمؤون فيها ، وهم فيها يشربون شرب شهوة والتذاذ ، لا شرب ظمأ ، ولا دفع ألمه.
(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا عِبَادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَهَا تَفْجِيرًا) (٦)
وتفجيرهم إياها عين المزاج ، فلو جرت من غير تفجير ، من كونه على كل شيء قديرا ، لكان شراب المقربين ، الآتي من تسنيم ، على البار المنعم بالتنعيم ، فبين المقرب والبار ، ما بين الأعين والآثار.