هو شاهد لا يعذب بل متنعم.
(وَمَا كُنتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلَا أَبْصَارُكُمْ وَلَا جُلُودُكُمْ وَلَكِن ظَنَنتُمْ أَنَّ اللَّهَ لَا يَعْلَمُ كَثِيرًا مِّمَّا تَعْمَلُونَ) (٢٢)
أي هذا لا يمكن الاستتار منه ، لأنكم ما تعملون الذي تأتونه من المنكرات إلا بالجوارح ، فإنها عين الآلة تصرفونها في طاعة الله أو معصيته ، فلا يتمكن لكم الاستتار عما لا يمكنكم العمل إلا به ، والجسد كله من حيث طبيعته طائع لله مشفق ، وما من جارحة منه إذا أرسلها العبد جبرا في مخالفة أمر إلهي إلا وهي تناديه : لا تفعل ، لا ترسلني فيما حرّم عليك إرسالي ، إني شاهدة عليك ، لا تتبع شهواتك ؛ وتبرأ إلى الله من فعله بها ، وكل قوة وجارحة فيه بهذه المثابة ، وهم مجبورون تحت قهر النفس المدبرة لهم وتسخيرها (وَما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَلا أَبْصارُكُمْ وَلا جُلُودُكُمْ) فمن علم أن كل شيء ناطق ناظر إلى ربه لزمه الحياء من كل شيء حتى من نفسه وجوارحه ، ومن كان مشهده هذا استحى من الموجودات كل الحياء في خلوته كما يستحي في جلوته ، فإنه في جلوة أبدا ، لأنه لا يخلو عن مكان يقلّه وسماء تظلّه ، ولو لم يكن في مكان لاستحى من أعضائه ورعية بدنه ، فإنه لا يفعل إلا بها ، فإنها آلاته وإنه لابد أن تستشهد فتشهد ، ولا يستشهد الله إلا عدلا (وَلكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ) هذا خطاب لمن يعتقد أن الله لا يعلم الجزئيات خاصة ثم قال :
(وَذَلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنتُم بِرَبِّكُمْ أَرْدَاكُمْ فَأَصْبَحْتُم مِّنْ الْخَاسِرِينَ) (٢٣)
(وَذلِكُمْ ظَنُّكُمُ) أي يقينكم (الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ) أي أهلككم ، لأنهم ظنوا أن الله لا يعلم كثيرا مما يعملون ، فعاد وبال ذلك عليهم ، فعذبهم الله بأعمالهم ، فظنهم أرداهم لأنهم ظنوا محالا ، وهو نفي العلم عن الله ببعض أعمال العباد (فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ) والخسران ضد الربح ، وهو نقص من رأس المال ، لما كان الأمر تجارة اتصف بالربح والخسران ، قال تعالى : (هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ) ويقول الله