وفيها رحمة الله لكونها دخلت في الأشياء ، قال الله تعالى (وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ) فمنعتها الرحمة القائمة بها من الإتيان ، وأشهدتها تسبيح الخلائق وطاعتهم لله ، فجيء بها ليعلم من لا يدخلها ما أنعم الله عليه به بعصمته منها ، ويعلم من يدخلها أنه بالاستحقاق يدخلها ، فتجذبه بالخاصية إليها جذب المغناطيس الحديد ، وهو قوله صلىاللهعليهوسلم [إنه آخذ بحجز طائفة من النار وهم يقتحمون فيها تقحم الفراش].
(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي) (٢٤)
فإن الكافر الجاهل يكشف له الغطاء وتتبين له الأمور الواقعة في الدنيا ما أثمرت هنالك ، فيقول (يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي) لعلمه أنه كان متمكنا من ذلك فلم يفعل ، فعذابه ندمه ، وما غبن فيه نفسه أشد عليه من أسباب العذاب من خارج ، وهذا هو العذاب الأكبر.
(فَيَوْمَئِذٍ لَّا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (٢٥) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (٢٦) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (٢٧) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَّرْضِيَّةً) (٢٨)
النفس المطمئنة إذا رجعت راضية فهي النفس العالمة ، لأنها إن لم ترجع راضية من ذاتها رجعت كرها وأجبرت على الرجوع. واعلم أن الرضا والتسليم نزاع خفي لا يشعر به إلا أهل الله ، فإن كان متعلق الرضا المقضي به. فيحتاج إلى ميزان شرعي ، وإن كان متعلق الرضا القضاء ، فإن كان القضاء يطلب القهر ويجد الراضي ذلك من نفسه ، فيعلم أن فيه نزاعا خفيا ، فيبحث عنه حتى يزيله ، وإن لم ير أن ذلك القضاء يطلب القهر ، فيعلم أنه الرضا الخالص الجبلي ، لأن الرضا من راض يروض ، ومنه الرياضة ، ورضت الدابة وهو الإذلال ، ولا يوصف به إلا الجموح ، والجموح نزاع ، إنما يراض المهر الصغير لجموحه وجهله بما خلق له ، فإنه خلق للتسخير والركوب والحمل عليه ، والمهر يأبى ذلك فإنه ما يعلمه ، فيراض حتى ينقاد في أعنة الحكم الإلهي ، وكذلك رياضة النفوس ، لو لا ما فيها من الجموع لما راضها صاحبها ، فإذا خلقت مرتاضة بالأصالة فكان ينبغي أن لا يطلق عليها اسم راضية بل هي مرضية ، وإنما النفوس الإنسانية لما خلقها الله على الصورة الإلهية شمخت