لأنه العلم العام الذي يعم جميع أحوال الناس ، وعلم زمانه ومكانه ، وما ثمّ إلا الحال والزمان والمكان ، وبقي للناصح علم الترجيح إذا تقابلت هذه الأمور ، فيكون ما يصلح الزمان يفسد الحال أو المكان ؛ وكذلك كل واحد منها ، فينظر في الترجيح فيفعل بحسب ما يترجح عنده ، وذلك على قدر إيمانه ، فإن الناصح في دين الله يحتاج إلى علم كثير ، وعقل وفكر صحيح ، وروية حسنة ، واعتدال مزاج وتؤدة ، وإن لم تكن فيه هذه الخصال كان الخطأ أسرع إليه من الإصابة. وما في مكارم الأخلاق أدق ولا أخفى ولا أعظم من النصيحة ، وكل إنسان يقبل النصح من غيره لا من نفسه ، والمؤمن مرآة أخيه ، لأن النفس عمياء عن عيوبها ، بصيرة بعيوب غيرها ، ولذلك يحتاج المؤمن إلى الإخوان لتبيين آفات نفسه ، فلسان حال الأخ في عقد الأخوة ، كل واحد منا بصير في عيوب أخيه لعماه عن عيوب نفسه ، واستيلاء رمسه ، فأخوك من صدقك لا من صدّقك ، ومن جرحك لا من مدحك ، وإليه ننظر قول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [من أرضى الناس بسخط الله صار مادحه منهم ذاما ، ومن أرضى الله بسخط الناس أرضى الله عنه الناس ويهبه العين الصحيحة] يرى الطالب معاديه بالعرف العام وليا ، والمسيء إليه محسنا ، إذ هو إنما يعادي عدوه ، فهو وليه من حيث لا يدري ، قال الشاعر :
ذهب الرجال المقتدى بفعالهم |
|
والمنكرون لكل أمر منكر |
وبقيت في خلف يزكي بعضهم |
|
بعضا ليدفع معور عن معور |
فمادحك إنما يتولى عدوك ، فاحذره ولا تأنس إليه ، فتميل في كل أحوالك إليه ، واعلم أنه من التزم النصح قل أولياؤه ، فإن الغالب على الناس اتباع الأهواء ، ولذلك يقول رسول الله صلىاللهعليهوسلم : [ما ترك الحق لعمر من صديق] وكذلك قال أويس القرني : إن الموت وذكره لم يتركا لمؤمن فرحا ، وإن علم المؤمن بحقوق الله لم يترك في ماله فضة ولا ذهبا ، وإن قيامه لله بالحق لم يترك له صديقا ولنا في ذلك :
لما لزمت النصح والتحقيقا |
|
لم يتركا لي في الوجود صديقا |
أما من استشهد بقول القائل :
وعين الرضا عن كل عيب كليلة |
|
كما أن عين السخط تبدي المساويا |