وأين القابض منه والمانع؟ وأين العالم في إحاطته من القادر والقاهر؟ فهل هذا كله إلا عين ما وقع في العالم ، فما تصرف رسول ولا عارف إلا فيه ، ولكن أكثر الناس لا يعلمون ، وذلك لأن من الناس من في أذنه وقر وعلى بصره غشاوة ، وعلى قلبه قفل وفي فكره حيرة ، وفي علمه شبهة وبسمعه صمم ، وو الله ما هو هذا كله عند العارف إلا للقرب المفرط (وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَلكِنْ لا تُبْصِرُونَ) ولهذا هام في العالم العارفون ، وتحقق بمحبته المتحققون ، ولهذا قلنا فيه في بعض عباراتنا : إنه مرآة الحق ، فما رأى العارفون فيه إلا صورة الحق ، وهو سبحانه الجميل ، والجمال محبوب لذاته ، والهيبة له في قلوب الناظرين إليه ذاتية ، فأورث المحبة والهيبة.
(أَلَا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِّن لِّقَاء رَبِّهِمْ أَلَا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُّحِيطٌ) (٥٤)
(أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فإنه تعالى أبان لنا في هذه الإحالة عن أحسن الطرق في العلم به ، فتبين لنا أنه الحق ، وأنه على كل شيء شهيد ، وقال في حق من عدل عن هذا النظر بالنظر فيه تعالى ابتداء (أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ) فلو رجعوا إلى ما دعاهم إليه من النظر في نفوسهم ، لم يكونوا في مرية من لقاء ربهم [من عرف نفسه عرف ربه] ثم تمم وقال : (أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ مُحِيطٌ) ـ الوجه الأول ـ وأراد هنا شيئية الوجود لا شيئية الثبوت ، فإن الأمر هناك لا يتصف بالإحاطة ، فكل ما سوى الله لا يمكنه الخروج من قبضة الحق ، فهو موجدهم ، فارجع بالنظر والاستقبال إلى ما منه خرجت ، فإنه لا أين لك غيره ، وانظر فيه تجده محيطا بك مع كونه مستقبلك ، فقد جمع بين الإطلاق والتقييد ـ الوجه الثاني ـ لما كان ظهور الحق في الآيات وفي الأنفس هو الذي تبين له بالآيات تمم وقال : (إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ) من العالم (مُحِيطٌ) والإحاطة بالشيء تستر ذلك الشيء ، فيكون الظاهر المحيط لا ذلك الشيء ، وصار ذلك الشيء وهو العالم في المحيط كالروح للجسم ، والمحيط كالجسم للروح ، الواحد شهادة وهو المحيط الظاهر والآخر غيب وهو المستور بهذه الإحاطة وهو عين العالم ، ولما كان الحكم للموصوف بالغيب في الظاهر الذي هو الشهادة ، وكانت أعيان شيئيات العالم على استعدادات في أنفسها ، حكمت على الظاهر فيها بما تقتضيه حقائقها ، فظهرت صورها في المحيط وهو الحق ، فقيل عرش وكرسي وأفلاك