رجعوا إلى الحق في حوائجهم من غير توبة التقريب كما قال : (إِنَّكُمْ عائِدُونَ) في القرب ، فعادوا كما قال ، فتعاين الملائكة ذلك الرجوع بالصورة ، فيستغفرون لمن في الأرض فيجاب الدعاء ، فإذا كان الرجوع بتوبة التقريب استغفر لهم الذين يستغفرون للذين آمنوا ، فما أعم الرحمة في الدنيا وما أخصها في الآخرة ، لله مائة رحمة جعل منها واحدة في الدنيا ، فعمت هذا العموم على الانفراد ، ورحم الناس بها بعضهم بعضا ، فإذا كان يوم القيامة أضاف هذه الرحمة إلى التسعة والتسعين ورحم بها الخلق ، ووقعت بها الشفاعة وما عمّت هذا التعميم ، فانظروا هذا المعنى وتحققوه ، وكل الناس يحار فيه إلا من عرف أن التصرف للرحمة ، وغيرها إنما هو بحكم الموطن لا بنفسها ، فهنا السر الذي يحصل به العلم ، ثم إن الله بشر أهل الأرض بقبول استغفار الملائكة بقوله : (أَلا إِنَّ اللهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) ولم يقل الفعال لما يريد ، ومن هذا استروحنا مآل عباد الله إلى الرحمة وإن سكنوا النار ، فلهم فيها رحمة لا يعلمها غيرهم ، وربما تعطيهم تلك الرحمة أن لو شموا رائحة من روائح الجنة تضرروا بها ، كما تضر رياح الورد والطيب بأمزجة المحرورين.
(وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ أَولِيَاء اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ (٦) وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِّتُنذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ) (٧)
(وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ) الجمع ظهر في ثلاث مواطن ، في أخذ الميثاق ، وفي البرزخ بين الدنيا والآخرة ، والجمع في البعث بعد الموت ، وما ثمّ بعد هذا الجمع جمع يعم ، فإنه بعد القيامة كل دار تستقل بأهلها ، فلا يجتمع عالم الإنس والجن (١) بعد هذا الجمع أبدا ، فإذا ظهر الحق لعباده فتولى الفصل بينهم بحكمه بنفسه ـ وهو العزيز العليم ـ فإذا فصل وحكم وعدل وأفضل ، جعلهم في الفصل فريقين (فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ) وهو الفريق السعيد في دار كرامته ، دار الثواب والنعمة ، وقيّم تلك الدار رضوان ، فإنها دار رضوان
__________________
(١) يعني مؤمنيهم وكافريهم.