فإن قوله (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ) إنما ذلك على خلقه ، فبالرتبة علم الفاضل والمفضول ، وبها ميز بين الله والعالم ، وبها ظهرت حقائق ما هي عليه الأسماء الإلهية من عموم التعلق وخصوصه (ذُو الْعَرْشِ) ـ الوجه الأول ـ ومن هذه المنزلة تنزل النبوة ، ينزلها رفيع الدرجات ذو العرش على العبد ، بأخلاق صالحة ، وأعمال مشكورة حسنة في العامة ، تعرفها القلوب ، ولا تنكرها النفوس ، وتدل عليها العقول ، وتوافق الأغراض ، وتزيل الأمراض ، فإذا حصل العبد في تلك المنزلة من رفيع الدرجات ذي العرش ، ونظر الحق من هذا الواصل إلى تلك المنزلة نظر استنابة وخلافة ، ألقى الروح بالإنباء من أمره على قلب ذلك الخليفة المعتنى به ، فتلك نبوة التشريع ، وهي قوله تعالى : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) فالإنذار أبدا مقرون بنبوة التشريع ـ الوجه الثاني ـ (رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ) لما كان العلم تحيا به القلوب ، كما تحيا بالأرواح أعيان الأجسام كلها ، سمى العلم روحا ، تنزل به الملائكة على قلوب عباد الله وتلقيه وتوحي به ، مثل قوله تعالى : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) فهذا نزول للروح بالواسطة ، ولله إلقاء للروح من غير واسطة في حق عباده أيضا ، فأما إلقاؤه ووحيه به فقوله : (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ) وقوله : (وَكَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا) وأما قوله تعالى : (عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) جاء بمن وهي نكرة ، فالروح بينه تعالى وبين من شاء من عباده بالبشارة والنذارة ، فإذا نزل هذا الروح في قلب العبد بتنزيل الملك أو بإلقاء الله ووحيه ، حيي به قلب المنزل عليه ، فكان صاحب شهود ووجود ، لا صاحب فكر وتردد ، ولا علم يقبل عليه دخلا فينتقل صاحبه من درجة القطع إلى حال النظر ، فالعبد المجتبى إما يعرج فيرى ، أو ينزل عليه في موضعه (لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ) فجاء بما ليس بشرع ولا حكم ، بل بإنذار ، فقد يكون الولي بشيرا ونذيرا ، ولكن لا يكون مشرعا ، فإن الرسالة والنبوة بالتشريع قد انقطعت ، فلا رسول بعده صلىاللهعليهوسلم ولا نبي ، أي لا مشرع ولا شريعة ؛ واعلم أن الأرواح النورية المسخرة ـ لا المدبرة ـ تنزل على قلوب العارفين بالأوامر والشؤون الإلهية والخيرات بحسب ما يريده الحق بهذا العبد ، فترقيه بما نزلت به إليه ترقية وتخليصا إلى الحجاب الأقرب من الحجب البعيدة ، إلى أن يتولاه الله بارتفاع الوسائط ، وهو قوله تعالى في هذه الآية (يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ) أما قوله تعالى في سورة النحل : (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ