به ، فشرع الله لنا في بعض الحقوق أنا إذا تركناها كان أعظم لنا ، وجعل ذلك من مكارم الأخلاق فقال : (فَأَجْرُهُ عَلَى اللهِ) أي هذه صفة الحق فيمن عفى عنه ، فيما هو حق له معرى عن حق الغير ، فإقامة العدل إنما هو في حق الغير ، وما كان الله ليأمر بمكارم الأخلاق ولا يكون الجناب الإلهي موصوفا به ، فكذلك يفعل مع عباده فيما ضيعوه من حقه وحقوقه ، يعفو ويصفح ويصلح ، فيكون المآل إلى رحمة الله في الدارين ، فتعمهم الرحمة حيث كانوا ولا يستوون ، فما أمرك بالعفو عمن جنى عليك إلا ليعفو عنك إذا جنيت عليه في ظنك ، ولو علم الناس قدر ما نبهنا عليه في هذه المسئلة ما جازى أحد من أساء إليه بإساءة ، فما كنت ترى في العالم إلا عفوّا مصلحا ، فإن المسيء في حقنا ، الذي خيرنا الله بين جزائه بما أساء وبين العفو عنه لما أساء ، أعطانا من خير الآخرة ما نحن محتاجون إليه ، حتى لو كشف الله الغطاء بيننا وبين ما لنا من الخير في الآخرة في تلك المساءة حتى نراها عيانا ، لقلنا إنه ما أحسن أحد في حقنا أحسن من هذا الذي قلنا إنه أساء في حقنا ، فلا يكون جزاؤه عندنا الحرمان ، فنعفو عنه فلا نجازيه ، ونحسن إليه مما عندنا من الفضل على قدر ما تسمح به نفوسنا ، فإنه ليس في وسعنا ولا يملك مخلوق في الدنيا ما يجازي به من الخير من أساء إليه ، ولا يجد ذلك الخير ممن أحسن إليه في الدنيا ، فمن كان هذا عقده ونظره كيف يجازي المسيء بإساءته إذا كان مخيرا فيها ، ولو لم يكن ثم إخبار من الله بالخير الأخروي لمن أسيء إليه إذا صبر ولم يجاز لكان المقرر في العرف كافيا فيما في التجاوز والعفو والصفح عن المسيء ، فإن ذلك من مكارم الأخلاق ، ولو لا إساءة المسيء إليّ ما اتصفت أنا ولا ظهرت مني هذه المكارم من الأخلاق ، كما أني لو عاقبته انتفت عني هذه الصفات في حقه ، وكنت إلى الذم أقرب مني إلى أن أحمد علي العقاب ، فكيف والشرع قد جاء في ذلك بأن أجر من يعفو ويتجاوز ولا يجازي أنه على الله؟.
(وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِّن سَبِيلٍ) (٤١)
من طلب حقه واستقصاه فلا يلام.
(إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَيَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ