العزيز والبكاء ، وإياه أراد بقوله : (وَإِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ) الآية ، فمن كان سمعه كذلك فعليه التخلق بما يسمع ، والمبادرة إلى الانقياد للتكليفات في جميع الأعضاء والقوابل في ظاهره وباطنه ، وفعل ما قدر عليه من المندوبات ، واجتناب ما سمع النهي عنه من المحرمات ، والتعفف عن المكروهات ، وترك فضلات المباحات بجميعه ، فقد خوطب بذلك على التفصيل ، فأما من له قلب فإنه بجميعه سمع ، كما أنه بجميعه يد ، كما أنه بجميعه رجل ، كما أنه بجميعه فرج ، كما أنه بجميعه قلب ، ولا يكون شهيدا ، إلا أن يقطع بأن ما سمعه حق ، لا من جوّز سواه ، ومن جوّز ذلك فعليه تعلم الإيمان بالمبادرة إلى امتثال ما سمع ، فإن من عمل على الشك صادقا في طلبه أورثه اليقين ، والله يقول : (إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ) فلو سمعوا لاستجابوا ، فبادر أيها السالك إلى مفهومك ، مما سمعت ، ولا تقف على البواطن ، فالذي يلزمك مفهومك ، ومن عمل بما علم ورثه الله علم ما لا يعلم (وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً) فإن أدركت زائدا على الظاهر موافقا مراد الآمر فبفضل الله على عقلك ، وإلا فلا حكم لعقلك على سمعك ، سيما بعد الشهادة ، فاتهم عقلك مبادرا إلى ما فهمت من ظاهره ، ومن لم يكن له قلب ولا ألقى السمع وهو شهيد فليس من أهل الذكرى.
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِن لُّغُوبٍ) (٣٨)
(وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَالْأَرْضَ وَما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) فأضاف الحق العمل إليه ، وذكر في الخلق أنه بيديه وبأيد وبيده وبقوله ، قال تعالى : (فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ) مع قدرته على خلقه إياها دفعة واحدة من غير تدريج ، لكن القدرة لا تؤثر في القدر ، وإنما أثرها في المقدور بشاهد القدر ، فإن شهد بها القدر بالتأثير أثرت ، وإلا أمسكت عن إذن القدر لا عن نفسها ، فمن حكم القدر كونها في ستة أيام ، فلا سبيل إلى عدول القدرة عما حكم به القدر ، (ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ) ثم أعلمنا أنه وإن اتصف بالعمل أنه لم يؤثر فيه تعب فقال : (وَما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ) فيما خلقه ، وهو قوله : (وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ) فإن اللغوب هو الإعياء ، ورد أنه سبحانه نظر إلى ما خلق في يوم السبت ، فاستلقى ووضع إحدى رجليه على الأخرى وقال : أنا الملك لظهور الملك ، ولهذا سمي يوم السبت ، والسبت الراحة ، ولهذا أخبر تعالى أنه ما مسه من لغوب فيما خلقه ، فهي راحة لا عن إعياء كما هي في حقنا.