من رؤيته ، وقوله (لَنْ تَرانِي) لموسى عليهالسلام حكم يرجع إلى حال ما علمه من سؤال موسى عليهالسلام ، لا يسعنا التكلم فيه ، وقد أحاله على الجبل ودكّ الجبل ، وصعق موسى ، والإدراك لا يصعق ، وليس من شرطه بنية مخصوصة ولا البنية من شرطه ، وإنما من شرطه موجود يقوم به ، لأنه معنى ، والصعق قام بالبنية الكثيفة ، فلما أفاق سبح ، ولا فائدة للتسبيح عند القيام من ذلك الموطن إلا لمشاهدة ما ، ثم أعطته المعرفة التوبة من اشتراط البنية ، ثم أقر بأنه أول المؤمنين بما رآه في تلك الصعقة ، لأن الإيمان لا يتصور إلا بالرؤية في أي عالم كان ، ولهذا قال النبي عليهالسلام لحارثة : [ما حقيقة إيمانك؟ قال : كأني أنظر إلى عرش ربي بارزا] ـ الحديث ـ فأثبت الرؤية في عالم ما ، وبها صحت له حقيقة الإيمان وأقر له النبي صلىاللهعليهوسلم فيها بالمعرفة. وما عدا هذا فهو الإيمان المجازي ، فلا فائدة للإيمان بالغيب إلا لحوقه بالمشاهدة ، ولهذا لا يدخله الريب. فموسى عليهالسلام أول من أدرك بالبصر على وجه ما. واعلم أن الكثيب هو مسك أبيض في جنة عدن ، وجعل في هذا الكثيب منابر وأسرة وكراسي ومراتب ، لأن أهل الكثيب أربع طوائف : مؤمنون ، وأولياء ، وأنبياء ، ورسل ، وكل صنف ممن ذكرنا أشخاصه يفضل بعضهم بعضا ، فإذا أخذ الناس منازلهم في الجنة استدعاهم الحق إلى رؤيته ، فيسارعون على قدر مراكبهم ومشيهم هنا في طاعة ربهم ، فمنهم البطيء ، ومنهم السريع ، ومنهم المتوسط ، ويجتمعون في الكثيب ، وكل شخص يعرف مرتبته علما ضروريا ، يجري إليها ولا ينزل إلا فيها ، كما يجري الطفل إلى الثدي ، والحديد إلى المغناطيس ، لو رام أن ينزل في غير مرتبته لما قدر ، ولو رام أن يتعشق بغير منزلته ما استطاع ، بل يرى في منزلته أنه قد بلغ منتهى أمله وقصده ، فهو يتعشق بما هو فيه من النعيم تعشقا طبيعيا ذاتيا ، لا يقوم بنفسه ما هو عنده أحسن من حاله ، ولو لا ذلك لكانت دار ألم وتنغيص ، ولم تكن جنة ولا دار نعيم ، غير أن الأعلى له نعيم بما هو فيه في منزلته ، وعنده نعيم الأدنى. وأدنى الناس منزلة ـ على أنه ليس ثمّ من دني ـ من لا نعيم له إلا بمنزله خاصة ، وأعلاهم من لا أعلى منه له نعيم بالكل. فكل شخص مقصور عليه نعيمه ، فما أعجب هذا الحكم!! فإذا نزل الناس في الكثيب للرؤية ، وتجلى الحق تعالى تجليا عاما على صور الاعتقادات في ذلك التجلي الواحد ، فهو واحد من حيث هو تجل ، وهو كثير من حيث اختلاف الصور ، فإذا رأوه انصبغوا عن آخرهم بنور ذلك التجلي ،