صلاته ، كما يؤدي المجاهد الصلاة حال المسايفة بباطنه كما شرعت ، بالقدر الذي يستطيعه من الإيماء بعينيه والتكبير بلسانه في جهاد عدوه في ظاهره ، فإن وسوسة الشيطان في ذلك الوقت لم تخرجه عما كلفه الله من أداء ما افترضه عليه ، وإن أخطر له الشيطان إذا رأى عزمه في الجهاد في الله ، أن يقاتل ليقال ، رغبة منه وحرصا أن يحبط عمل هذا العبد ، وكان قد أخلص النية أولا عند شروعه في القتال ، أنه يقاتل ذابا عن دين الله ، ولتكون كلمة الله هي العليا وكلمة الذين كفروا السفلى ، فلا يبالي بهذا الخاطر ، فإن الأصل الذي بنى عليه صحيح ، والأساس قوي ، وهو النية في أول الشروع ، فإن عرض الشيطان له بترك ذلك العمل الذي قد شرع فيه على صحة ، ووسوس إليه أنه فاسد بما خطر له من الرياء ، فيرد عليه بقوله تعالى (وَلا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ) فتدفع بهذه الآية الشبهة التي ألقاها إليك من ترك العمل.
(الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ) (٥)
اعلم أن النفس وإن كانت مقيدة ، فهي لا تشتهي التقييد بذاتها ، وتطلب السراح والتصرف بما يخطر لها من غير تحجير ، فإذا رأيت النفس قد حبّب إليها التحجير فقامت به طيبة ، وكره إليها تحجير فقامت به وإن قامت غير طيبة مكرهة ، فتعلم قطعا أن ذلك التحجير مما ألقي إليها من غير ذاتها ، كان التحجير ما كان ، فإذا حبب إلى نفوس العامة القيام بتحجير خاص ، فتعلم قطعا أن ذلك التحجير هو الباطل ، الذي يؤدي العامل به إلى شقاوة العامل به والواقف عنده ، فإن الشيطان الذي يوسوس في صدره يوسوس إليه دائما ويحببه إليه ، لأن غرضه أن يشقيه ، وإذا رأيته يكره ذلك التحجير ويطلب تأويلا في ترك العمل به ، فتعلم أن ذلك تحجير الحق الذي يحصل للعامل به السعادة ، ولهذا نرى من ليس بمسلم يثابر على دينه وملازمته ـ كأكثر اليهود والنصارى ـ أكثر مما يثابر المسلم في إقامة جزئيات دينه ، ومثابرته على ذلك دليل على أنه على طريق يشقى بسلوكه عليها.
(مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ) (٦)