نحن أدلة عليه وعلينا ، فإن أعظم الدلالات وأوضحها دلالة الشيء على نفسه ، فالتدبر من الله عين التفكر من المفكرين منا ، وبالتدبر تميز العالم بعضه من بعضه ومن الله ، وبالتفكر عرف العالم ذلك ، ودليله الذي فكّر فيه هو عين ما شاهده من نفسه ومن غيره ، فإذا انكشفت الحقائق فلا ريب ولا مين ، وبان صبحها لذي عينين ، كان الاطلاع ، وارتفاع النزاع ، وحصل الاستماع ، ولكن بينك وبين هذه الحال مفاوز مهلكة ، وبيداء معطشة ، وطرق دارسة ، وآثار طامسة ، يحار فيها الخرّيت ، فلا يقطعها إلا من يحيي ويميت ، لا من يحيا ويموت ، فكيف حال من يقاسي هذه الشدائد ويسلك هذه المضايق؟ ولكن على قدر آلام المشقات يكون النعيم بالراحات ، وما ثم بيداء ولا مفازة سواك ، فأنت حجابك عنك ، فزل أنت وقد سهل الأمر ، فمن علم الخلق علم الحق ، ومن جهل البعض من هذا الشأن جهل الكل ، فإن البعض من الكل فيه عين الكل من حيث لا يدري ، فلو علم البعض من جميع وجوهه علم الكل ، فإن من وجوه كونه بعضا علم الكل ، ولذا كثرت الآيات واتضحت الدلالات ، ولكن الأبصار في حكم أغطيتها ، والقلوب في أكنتها ، والعقول مشغولة بمحاربة الأهواء ، فلا تتفرغ للنظر المطلوب منها (أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ) إشارة إلى ما خلق عليه الإنسان الكامل الذي نصبه دليلا أقرب على العلم من طريق الكشف والشهود ، فقال أهل الشهود كفانا ، فما عرف الحق إلا الإنسان الكامل ، فإنه بنفسه عرفه ، وأما الإنسان الحيوان فعرفه بعقله بعد ما استعمل فكره في النظر في آيات الآفاق ، بمشاهدة التنزيه دون التشبيه الذي أعطته المماثلة بالصورة ، وأما الأنبياء عليهمالسلام فقد وصفوا الحق بما شهدوه ، وأنزل عليهم بصفات المخلوقين ، لوجود الكمال الذي هو عليه الحق ، وما وصل إلى هذه المعرفة بالله لا ملك ولا عقل إنسان حيواني ، فإن الله حجب الجميع عنه ، وما ظهر إلا للإنسان الكامل ، الذي هو ظله الممدود ، وعرشه المحدود ، وبيته المقصود ، الموصوف بكمال الوجود ، فلا أكمل منه ، لأنه لا أكمل من الحق تعالى ، فعلمه الإنسان الكامل من حيث عقله وشهوده ، فجمع بين العلم البصري الكشفي وبين العلم العقلي الفكري ، فمن رأى أو علم الإنسان الكامل الذي هو نائب الحق فقد علم من استخلفه ، فإنه بصورته ظهر ، وما أنكر الحق من أنكره في الآخرة أو حيث وقع الإنكار ، إلا لما تقدمهم من النظر العقلي ، وقيدوا الحق ، فلما لم يروا ما قيدوه به من الصفات ، عند ذلك أنكروه ،