فان قلت : الاشعرية أيضا قائلون بحدوث العالم ، فما وجه تخصيص هذا النزاع بالفلاسفة والمعتزلة؟ ؛
قلت : المراد انّ أثر النزاع في القدرة والايجاب بين الحكماء والمعتزلة ليس إلاّ في قدم العالم وحدوثه ـ لأنّ الايجاب يستلزم القدم والاختيار يستلزم الحدوث ـ ، بل التحقيق ـ كما قيل ـ : انّ امتناع انفكاك العالم عن ذاته ـ تعالى ـ وامكان انفكاكه عنه معنى رابطي بين الفاعل ـ الّذي هو الله تعالى ـ وبين العالم ـ هو الفعل ـ. وهذا المعنى إن اعتبر من طرف الفاعل ويجعل صفة له سمّى بالايجاب والاختيار ، وان اعتبر من طرف الفعل سمّى بالقدم والحدوث ، فانّ المعتزلة لمّا وافقوا الحكماء في وجوب الفعل مع الإرادة وامكانه بدونها لا تبقى معهم مخالفة للحكماء في القدرة والايجاب إلاّ فيما يترتّب عليهما من القدم والحدوث ؛ وأمّا الاشاعرة لمّا قالوا بصحّة الفعل والترك بالامكان الوقوعي وعدم وجوب صدور الفعل مع الإرادة أيضا فلم يقولوا بالايجاب مطلقا ، والفاعل في ايجاد العالم عندهم قادر مختار ، ولو فرض قدم العالم. فالمراد انّ أثر النزاع بينهم وبين الحكماء في القدرة والايجاب ليس في القدم والحدوث ، لا أنّهم ليسوا قائلين بالحدوث.
فحاصل كلام الأشعرية انّ تأثير الواجب ـ تعالى ـ في ايجاد العالم ليس بايجاب أصلا ، بل بالقدرة والاختيار ؛ بل جوّزوا تأثير الفاعل المختار بلا مرجّح بدون الوجوب واللزوم بأن يكون المرجّح نفس إرادة الفاعل المختار. فالنزاع حقيقة بين الأشعرية والحكماء في مقامين : أحدهما : في أنّ ايجاد الفاعل المختار يجوز بلا مرجّح يوجب الفعل أم لا ؛ وثانيهما : في حدوث العالم وقدمه. فهم ـ أي : الأشعرية ـ قالوا : انّ الله ـ تعالى ـ احدث العالم في الوقت الّذي أراد في الأزل أن يحدثه بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة والاختيار يمكن الترجيح بدون المرجّح ، ولا يصير الفعل مع الإرادة واجبا. فحاصل النزاع بين الحكماء والمعتزلة هو أنّ الحكماء لمّا ذهبوا إلى وجوب الفعل عليه ـ تعالى ـ دائما وقالوا لا يمكن أن يتصوّر خلوه ـ تعالى ـ عن الفعل ولو في وقت موهوم أو في عدم بحت وليس محض لو وجد فيه موجود لكان ممتدّا ، ألجئوا إلى القول بالقدم ، فهم قائلون بالايجاب المطلق. والمعتزلة لمّا ذهبوا إلى أنّه