* * *
( عود إلى ما سبق من ابحاث القدرة )
واذ فرغنا من تحقيق القول في حدوث العالم وبيّنا حقّية الحدوث الدهري وبطلان الزماني والقدم فلنرجع إلى ما كنّا بصدده ـ أعني : اثبات القدرة بالمعنى الثالث ، أي : امكان الصدور واللاصدور بالنظر إلى الداعي وشرائط التأثير في بعض الأوقات وإن وجب في بعض آخر منها ـ.
فنقول : لمّا ثبت أنّ العالم مسبوق بالعدم الصريح والليس الساذج وبه حصل الانفكاك الواقعي بين الواجب والعالم ـ كما بينّاه ـ ، يترتب عليه الامكان المذكور في وقت ما. لا الوقت بمعنى الزمان ، بل بمعنى الواقع ونفس الأمر ـ فانّ الوقت هنا أعم من ذلك ـ لأنّ حقيقة القدرة بهذا المعنى هو جواز الترك بالنظر إلى الإرادة والمصلحة أو عدم القبول للوجود ولو في الوقت الموهوم أو التقديري ـ أعني : الليس الصرف والعدم البحث ـ ، والحدوث الدهري ـ على ما فسّر ـ ملزوم له أو احد أفراده. والقول بأنّ الترك حينئذ واجب بالنظر إلى الداعي فلا تثبت منه القدرة المفسّرة بالامكان ، قد تقدّم القول فيه.
واذ ثبتت القدرة بهذا المعنى يبطل الايجاب المقابل لها ـ أعني : وجوب الفعل في جميع الاوقات بالنظر إلى الداعي ـ ، كما ذهب إليه الفلاسفة ، وعلى القول بالحدوث الزماني يكون ثبوت القدرة بهذا المعنى وبطلان الايجاب المقابل لها أظهر ؛ كما لا يخفى.
وأمّا القدرة بالمعنى الرابع ـ أعني : امكان الفعل والترك في جميع الاوقات ولو في آن الحدوث بالنظر إلى الداعي ـ ، فالقول بثبوته للواجب ـ تعالى ـ ونفى الايجاب المقابل لها ووجوب الفعل في وقت خاصّ مختص بالاشاعرة نظرا إلى انّهم نفوا الايجاب مطلقا وجوّزوا الترجيح بلا مرجّح ، فقالوا : أوجد الله ـ تعالى ـ العالم في الوقت الّذي اراد في الأزل أن يوجده بدون مرجّح غير تعلّق الإرادة ، وبالإرادة لا يجب الفعل ،