عجيبة مع أن الأمر في الحقيقة ما كان وفق ما تخيلوه. قيل : إنهم أتوا بالحبال والعصي ولطخوا تلك الحبال بالزئبق ، وجعلوا الزئبق في دواخل تلك العصي فلما أثر تسخين الشمس فيها تحركت والتوى بعضها على بعض وكانت كثيرة جدا ، فالناس تخيلوا أنها تتحرك وتلتوي باختيارها وقدرتها (وَاسْتَرْهَبُوهُمْ) أي بالغوا في تخويف عظيم للعوام من حركات تلك الحبال والعصي وخاف موسى أن يتفرقوا قبل ظهور معجزته فكان خوفه لأجل فزع الناس واضطرابهم مما رأوه من أمر تلك الحيات ، وليس خوفه لأجل سحرهم لأنه كان على ثقة من الله تعالى أنهم لم يغلبوه وهو غالبهم (وَجاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ) (١١٦) في باب السحر وعند السحرة وإن كان حقيرا في نفسه قيل : كانت الحبال والعصي حمل ثلاثمائة بعير وذلك أنهم ألقوا حبالا غلاظا وأخشابا طوالا فإذا هي حيات كأمثال الحبال قد ملأت الوادي يركب بعضها بعضا وكانت سعة الأرض ميلا في ميل فصارت كلها حيات (وَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ) ولما ألقى موسى العصا صارت حية عظيمة حتى سدت الأفق ثم فتحت فكها فكان ما بين فكيها ثمانين ذراعا ، وابتلعت ما ألقوا من حبالهم وعصيهم فلما أخذها موسى صارت عصا كما كانت من غير تفاوت في الحجم أصلا كما قال تعالى (فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ) أي تلقم (ما يَأْفِكُونَ) (١١٧) أي الذي يقبلونه عن الحق إلى الباطل (فَوَقَعَ الْحَقُ) أي فظهر الحق مع موسى (وَبَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (١١٨) أي واضمحل ما عملوه من السحر وسبب هذا الظهور أن السحرة قالوا : لو كان ما صنع موسى سحرا لبقيت حبالنا وعصينا فلما فقدت ثبت أن ذلك حصل بخلق الله تعالى لا لأجل السحر (فَغُلِبُوا) أي فرعون وقومه (هُنالِكَ) أي في المكان الذي وقع فيه سحرهم (وَانْقَلَبُوا صاغِرِينَ) (١١٩) أي صاروا ذليلين مبهوتين (وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ) (١٢٠) أي خروا سجدا لله تعالى أي فمن سرعة سجودهم كأنهم ألقوا.
قال ابن زيد : كان اجتماعهم بالإسكندرية وبلغ ذنب الحية وراء البحر ، ثم فتحت فاها ثمانين ذراعا فكان تبتلع حبالهم وعصيهم واحدا واحدا حتى ابتلعت الكل ، وقصدت القوم الذين حضروا ذلك المجمع ففزعوا ووقع الزحام ، فمات منهم خمسة وعشرون ألفا ، ثم أخذها موسى فصارت في يده عصا كما كانت ، فلما رأى السحرة ذلك عرفوا أنه ليس بسحر فعند ذلك خروا ساجدين (قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ) (١٢١) قال فرعون : إياي تعنون؟ قالوا : لا بل (رَبِّ مُوسى وَهارُونَ) (١٢٢) ولما ظفروا بالمعرفة سجدوا لله تعالى في الحال وجعلوا ذلك السجود شكرا لله تعالى على الفوز بالإيمان والمعرفة ، وعلامة على انقلابهم من الكفر إلى الإيمان ، وإظهارا للخضوع والتذلل لله تعالى فكأنهم جعلوا ذلك السجود الواحد علامة على هذه الأمور الثلاثة على سبيل الجمع وأولئك القوم كانوا عالمين بحقيقة السحر ، فلما وجدوا معجزة موسى خارجة عن حدّ السحر علموا أنها أمر إلهي فاستدلوا بها على أن موسى نبي صادق من عند الله تعالى فلأجل كمالهم في علم السحر انتقلوا من الكفر إلى الإيمان ، فإذا كان حال علم السحر كذلك فما ظنك