يقال (١) : الخلق ليس عبارة عن التكوين والإيجاد ، والدليل عليه قوله تعالى : (إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) [آل عمران : ٥٩] فلو كان الخلق عبارة عن الإيجاد والتكوين لصار تقدير الآية أوجده من تراب ، ثم قال له كن فيكون وهذا محال فثبت أن الخلق ليس عبارة عن الإيجاد والتكوين ، بل هو عبارة عن التقدير ، والتقدير في حق الله هو كلمته بأن سيوجده. وإذا ثبت هذا فنقول قوله : خلق الأرض في يومين معناه أنه قضى بحدوثه في يومين ، وقضاء الله أنه سيحدث كذا في مدة كذا لا يقتضي حدوث ذلك الشيء في الحال فقضاء الله بحدوث الأرض في يومين قد تقدم على إحداث السّماء وحينئذ يزول السؤال (٢).
قوله : «ثمّ قال (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ). وقرأ العامة «ائتيا» أمرا من الإتيان (قالَتا أَتَيْنا) منه أيضا. وقرأ ابن عباس وابن جبير ومجاهد «آتيا» قالتا آتينا ـ بالمد فيهما (٣) ـ وفيه وجهان :
أحدهما : من المؤاتاة وهي الموافقة ، أي ليوافق كل منكما الأخرى لما يليق بها. وإليه ذهب الرازي (٤) والزّمخشريّ (٥) ، فوزن «آتيا» فاعلا ، كقاتلا ، و «آتينا» وزنه فاعلنا كقاتلنا.
والثاني : أنه من الإيتاء بمعنى الإعطاء ، فوزن «آتيا» أفعلا كأكرما ، ووزن «آتينا» أفعلنا كأكرمنا. فعلى الأول يكون قد حذف مفعولا ، وعلى الثاني قد حذف مفعولين ؛ إذ التقدير: أعطيا الطاعة من أنفسكما من أمركما ، قالتا أعطيناه الطاعة (٦). وقد منع أبو الفضل الرازي الوجه الثاني فقال : آتينا بالمدّ على فاعلنا من المؤاتاة بمعنى سارعنا ، على حذف المفعول به ، ولا يكون من الإيتاء الذي هو الإعطاء لبعد حذف مفعوليه (٧).
قال شهاب الدين : وهذا هو الذي منع الزمخشري (٨) أن يجعله من الإيتاء. قوله : (طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) مصدران في موضع الحال ، أي طائعتين أو مكرهتين (٩).
وقرأ الأعمش «كرها» بالضم (١٠) ، وتقدم الكلام على ذلك في النساء (١١). قوله :
__________________
(١) في ب أن نقول.
(٢) المرجع السابق.
(٣) قراءة شاذة غير متواترة ، رغم أنها جائزة لغة ، وقد ذكرها أبو الفتح في المحتسب ٢ / ٢٤٥ ، والقرطبي في الجامع ١٥ / ٣٤٤ ، والسمين في الدر ٤ / ٧٢٠.
(٤) المراد به الإمام الفخر صاحب التفسير الكبير الذي يكثر المؤلف من النقل عنه والذي يكثر هو الآخر من النقل من الزمخشري انظر الرازي ٢٧ / ١٠٦ فقد قال : ومعنى الإتيان الحصول والوقوع على وفق المراد.
(٥) انظر الكشاف ٣ / ٤٤٦.
(٦) الدر المصون ٤ / ٧٢١.
(٧) بالمعنى من البحر المحيط ٧ / ٤٨٧.
(٨) الدر المصون المرجع السابق.
(٩) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٤٦.
(١٠) ذكر تلك القراءة أبو حيان في البحر ٧ / ٤٨٧.
(١١) يشير إلى قوله : «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً» [النساء : ١٩].