يقتضي أنه تعالى خلق السماء بعد خلق الأرض ، وبعد أن جعلها مدحوّة وحينئذ يعود السؤال.
الثاني : أنه ورد أنّ الدلائل الهندسية دلّت على أن الأرض كرة في أول حدوثها إن قلنا : إنها كرة ، والآن بقيت كرة أيضا فهي منذ خلقت كأنها مدحوّة ، وإن قلنا : إنها غير كرة ثم جعلت كرة فيلزم أن يقال : إنها كانت مدحوّة قبل ذلك ، ثم أزيل عنها هذه الصفة وذلك باطل.
الثالث : أن الأرض جسم في غاية العظم والجسم الذي يكون كذلك فإنه من أول دخوله في الوجود يكون مدحوّا ، فالقول بأنها كانت غير مدحوة ثم صارت مدحوة قول باطل. والذي جاء في كتب التواريخ أن الأرض خلقت من موضع الصّخرة ببيت المقدس فهو كلام مشكل لأنه إذا كان المراد أنها على عظمها خلقت من ذلك الموضع ثم خلق بقية أجزائها ، وأضيفت إلى تلك الأجزاء التي خلقت أولا فهذا يكون اعترافا بأن تخليق الأرض وقع متأخرا عن تخليق السماء.
الرابع : أنه لما حصل تخليق ذات الأرض في يومين ، وتخليق سائر الأشياء الموجودة في الأرض في يومين وتخليق السماوات في يومين آخرين كان مجموع ذلك ستة أيام ، فإذا حصل دحو الأرض بعد ذلك فقد حصل هذا الدحو في زمان آخر بعد الأيام الستة فحينئذ يقع تخليق السماوات والأرض في أكثر من ستة أيام وذلك باطل.
الخامس : أنه لا نزاع في أن قوله تعالى بعد هذه الآية : «ثمّ قال (لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) كناية عن إيجاد السماوات والأرض ، فلو تقدم إيجاد السماوات لكان قوله تعالى: (ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً) يقتضي إيجاد الموجودات وأنه محال باطل. هذا تمام البحث عن هذا الجواب (١).
ونقل الواحدي في البسيط عن مقاتل أنه قال : خلق السماء قبل الأرض ، وتأول قوله : (ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ) ثم كان قد استوى إلى السماء وهي دخان قبل أن يخلق الأرض ، فأضمر فيه كان كما قال تعالى (قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ) [يوسف : ٧٧] معناه إن يكن سرق ، وقال تعالى : (وَكَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا) [الأعراف : ٤] (والمعنى (٢)) فكان قد جاءها ، هذا ما نقله الواحدي قال ابن الخطيب وهذا عندي ضعيف ، لأن تقدير الكلام ثمّ كان قد استوى إلى السماء. هذا جمع ين الضدين لأن كلمة «ثمّ» تقتضي التأخير ، وكلمة «كان» تقتضي التقديم ، والجمع بينهما يفيد التناقض ، وإنما يجوز تأويل كلام الله بما لا يؤدي إلى وقوع التناقض (٣) والركاكة فيه. والمختار عندي أن يقال : خلق السماء مقدم على خلق الأرض ، وتأويل الآية أن
__________________
(١) السابق.
(٢) سقط من ب.
(٣) المرجع السابق.