قوله : (إِلَّا ظَنًّا) هذه الآية لا بدّ فيها من تأويل ، وذلك أنه يجوز تفريغ العامل لما بعده من جميع معمولاته مرفوعا كان أم غير مرفوع ، إلا المفعول المطلق ، فإنه لا يفرغ له ، لا يجوز : ما ضربت إلّا ضربا لأنه لا فائدة فيه ، وذلك أنه بمنزلة تكرير الفعل ، فكأنه في قوة : ما ضربت إلّا ضربت. قاله (١) مكي وأبو البقاء (٢). وقال الزمخشري : فإن قلت : ما معنى : إن نظنّ إلّا ظنّا؟ قلت : أصله نظن ظنّا ، ومعناه إثبات الظن حسب ، وأدخل حرف النفي والاستثناء ليفاد إثبات الظن ونفي ما سواه ويزيد نفي ما سوى الظن توكيدا بقوله : (وَما نَحْنُ (٣) بِمُسْتَيْقِنِينَ). فظاهر كلامه أنه لا يتأول الآية بل حملها على ظاهرها.
قال أبو حيان : وهذا كلام من لا شعور له بالقاعدة النحوية من أن التفريغ يكون في جميع المعمولات من فاعل أو مفعول وغيرهما إلا المصدر المؤكد ، فإنه لا يكون فيه (٤). وقد اختلف الناس في تأويلها على أوجه :
أحدها : ما قاله المبرد وهو أن الأصل : إن نحن إلّا نظنّ ظنّا (٥) قال : ونظيره ما حكاه أبو عمرو (٦) : ليس الطّيب إلّا المسك. تقديره ليس إلا الطيب المسك. قال شهاب الدين : يعني أن اسم «ليس» ضمير الشأن مستتر فيها و «إلا الطيب المسك» في محل نصب خبرها. وكأنه خفي عليه أن لغة تميم إبطال عمل ليس إذا انتقض نفيها «بإلا» قياسا على «ما الحجازية». والمسألة طويلة مذكورة في كتب النحو (٧) ، وعليها حكاية جرت بين أبي عمرو ، وعيسى بن عمر(٨).
__________________
ـ ذلك في المفصل ، ورده عليه ابن يعيش قائلا : «وقول صاحب الكتاب ، ولأن محل المكسورة وما عملت فيه الرفع جاز في قولك : إنّ زيدا ظريف وعمرا أن ترفع المعطوف ليس بسديد ، لأن إن وما عملت فيه ليس للجميع موضع من الإعراب ، لأنه لم يقع موقع المفرد ، وإنما المراد موضع اسم إن قبل دخولها على تقدير سقوط إن وارتفاع ما بعدها بالابتداء». انظر ابن يعيش ٨ / ٦٧.
(١) قال : «لأن المصدر فائدته كفائدة الفعل ، فلو جرى الكلام على غير حذف لصار تقديره إن نظن إلّا نظن وهذا كلام ناقص ، ولم يجر النحويون : ما ضرب إلّا ضربا لأن معناه ما ضربت إلّا ضربت ؛ وهذا كلام لا فائدة فيه». انظر المشكل ٢ / ٢٩٨.
(٢) التبيان ١١٥٣.
(٣) الكشاف ٣ / ٥١٣ و ٥١٤.
(٤) البحر المحيط ٨ / ٥٢.
(٥) انظر الدر المصون ٤ / ٨٤٣ ومشكل إعراب القرآن ٢ / ٢٩٨.
(٦) وقد قال أبو عمرو : ليس في الأرض حجازيّ إلّا وهو وينصب ، وليس في الأرض تميمي إلّا وهو يرفع. وانظر ذيل الأمالي والنوادر ٣٩ ، وإنباه الرواة على أنباه النحاة ٤ / ١٤٠ و ١٣١.
(٧) فقد قال سيبويه في الكتاب : «وقد زعم بعضهم أن ليس تجعل كما ، وذلك قليل ، لا يكاد يعرف ، فهذا يجوز أن يكون منه : ليس خلق الله أشعر منه ... هذا كله سمع من العرب. والوجه والحد أن تحمله على أن في ليس إضمارا وهذا مبتدأ كقوله : إنه أمة الله ذاهبة ، إلّا أنهم زعموا أن بعضهم قال : ليس الطيب إلّا المسك ، وما كان الطيب إلّا المسك». انظر الكتاب ١ / ١٤٧ ، والدر المصون ٤ / ٨٤٣.
(٨) حكاها القالي في ذيل الأمالي والنوادر ٣٩.