عنهم شبهة أخرى وهي أنهم كانوا يقترحون عليه معجزات عجيبة ، ويطالبونه بأن يخبرهم عن المغيبات ، فأجاب الله تعالى عن ذلك بقوله : (قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ)(١).
قوله : «بدعا» فيه وجهان :
أحدهما : أنه على حذف مضاف تقديره : ذا بدع ، قاله أبو البقاء : وهذا على أن يكون البدع مصدرا (٢).
والثاني : أن البدع نفسه صفة على فعل (٣) بمعنى بديع كالخفّ والخفيف ؛ والبدع والبديع ما لم ير له مثل ، وهو من الابتداع وهو الاختراع. أنشد قطرب :
٤٤٥١ ـ فما أنا بدع من حوادث تعتري |
|
رجالا عرت من بعد بؤس وأسعد (٤) |
قال البغوي ـ (رحمهالله) ـ : (البدع) (٥) مثل نصف ونصيف ، وجمع البدع أبداع (٦). وقرأ عكرمة وأبو حيوة وابن أبي عبلة : بدع ـ بفتح (٧) الدال ـ جمع بدعة ، أي ما كنت ذا بدع. وجوز الزمخشري أن يكون صفة على فعل ، كدين قيم ، ولحم زيم (٨). قال أبو حيان : ولم يثبت سيبويه صفة على «فعل» إلّا قوما عدى (٩). وقد استدرك عليه لحم زيم. أي متفرق. وهو صحيح. وأما قيم فمقصور من قيام ، ولولا ذلك لصحت عينه كما صحت في حول وعوض وأما قول العرب : مكان سوى ، وماء روى (١٠) ، ورجل رضى ، وماء صرى (١١) ، وسبي طيب (١٢) ، فمتأولة عند التصريفيين (١٣). قال شهاب
__________________
(١) قاله الرازي في التفسير الكبير ٢٨ / ٧.
(٢) التبيان ١١٥٤.
(٣) قاله أيضا أبو البقاء فهو بالمعنى من التبيان المرجع السابق.
(٤) من الطويل لعديّ بن زيد. وقد روي روايات متعددة ففي القرطبي ١٦ / ١٨٥ : فلا أنا ... من بعد بؤس بأسعد ، كما روي : فلست بمن يخشى حوادث تعتري ... رجالا فبادوا بعد بؤس وأسعد.
والشاهد : قوله بدع بمعنى الشيء الذي لم ير من قبل. انظر البحر ٨ / ٥٦ ومجمع البيان ٩ / ٢٦ والقرطبي ١٦ / ١٨٥ والطبري ٢٦ / ٥.
(٥) ما بين الأقواس زيادة من أ.
(٦) معالم التنزيل للبغويّ.
(٧) وهي قراءة شاذة ذكرها الزمخشري في الكشّاف ٣ / ٥١٧ والقرطبي في الجامع ١٦ / ١٨٥.
(٨) الكشاف المرجع السابق.
(٩) قال : «ويكون فعلا فيهما (أي في الأسماء والصفات) فالأسماء نحو : الضّلع ، والعوض ، والصّغر ، والعنب ، ولا نعلمه جاء صفة إلا في حرف من المعتل يوصف به الجماع وذلك قولهم : قوم عدى.
ولم يكسر على عدى واحد ولكنه بمنزلة السّفر والرّكب». الكتاب ٤ / ٢٤٤.
(١٠) أي كثير.
(١١) قال في اللسان : الصّرى والصّرى الماء الذي طال استنقاعه. وقال أبو عمرو : إذا طال مكثه وتغيره وقد صري الماء بالكسر وقد ضبطه محققو ابن منظور : صرى.
(١٢) ضبطت في اللسان طيّب بالتشديد.
(١٣) البحر ٨ / ٥٦ هذا وقد نقل السيوطي في المزهر ٢ / ٥٠ قال ابن قتيبة : وقال غيره : قد جاء مكانا ـ