فيها بحيث لا تفارقونه ولا يخرج من قلوبكم وذلك لأن من يحبّ شيئا فقد يسأم منه لطول ملازمته والإيمان كل يوم يزداد حسنا لكل من كانت عبادته أكثر وتحمّله مشاق التكليف أتم تكون العبادة والتكاليف عنده ألذ وأكمل ولهذا قال أولا : حبب إليكم الإيمان ، وقال ثانيا : وزينه في قلوبكم كأنه قربه إليهم ثم أقامه في قلوبهم.
قوله (١) : (وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيانَ) قال ابن الخطيب : هذه الأمور الثلاث في مقابلة الإيمان الكامل ؛ لأن الإيمان المزين هو التصديق بالجنان. وأما الفسوق فقيل : هو الكذب كما تقدم عن ابن عباس وقال تعالى : (إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ) فسمى الكاذب فاسقا وقال تعالى : (بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ). وقيل الفسوق الخروج عن الطاعة لقولهم : فسقت الرّطبة (٢) إذا خرجت. وأما العصيان فهو ترك المأمور به. وقال بعضهم (٣) : الكفر ظاهر ، والفسوق هو الكبيرة والعصيان هو الصغيرة (٤).
قوله : «فضلا» يجوز أن ينتصب على المفعول من أجله (٥). وفيما ينصبه وجهان :
أحدهما : قوله : (وَلكِنَّ اللهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ) وعلى هذا فما بينهما اعتراض من قوله : (أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ).
والثاني : أنه الفعل الذي في قوله «الرّاشدون». وعلى هذا يقال : فكيف جاز أن يكون فضل الله الذي هو فعل الله مفعولا له بالنسبة إلى الرشد الذي هو فعل العبد فاختلف الفاعل ، لأن فاعل الرّشد غير فاعل الفضل؟. وأجاب الزمخشري : بأن الرشد لما كان توفيقا من الله تعالى كان فعل الله وكأنه تعالى أرشدهم فضلا أي يكون متفضّلا عليهم ، منعما في حقهم ، لأن الرشد عبارة عن التحبب والتّزيين والتكريه. وجوز أيضا أن ينتصب بفعل مقدر ، أي جرى ذلك وكان ذلك فضلا من الله (٦). قال أبو حيان : وليس من مواضع إضمار كان ، وجعل كلامه الأول اعتزالا (٧). وليس كذلك لأنه أراد الفعل المسند إلى فاعله لفظا وإلا فالتحقيق أن الأفعال كلها مخلوقة لله تعالى وإن كان الزمخشري غير موافق عليه.
__________________
(١) في ب «فصل» بدل «قوله».
(٢) خرجت من قشرها والفأرة من جحرها. وانظر تفسير العلامة القرطبي الجامع الكبير ١٦ / ٣١٤.
(٣) عبر عنهم الإمام الرازي بقوله : وقال بعض الناس.
(٤) المرجع السابق للرازي ٢٨ / ١٢٥.
(٥) قاله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٥٦٢ وأبو البقاء في التبيان ١١٧١ وأبو حيان نقلا عن الكشاف في البحر ٨ / ١١٠.
(٦) بالمعنى من الكشاف المرجع السابق وباللفظ من تفسير الإمام الفخر ٢٨ / ١٢٥.
(٧) البحر ٨ / ١١١.