واعلم أن ترك الشكر لوجوه :
الأول : أن يعتقد الرجل أنّ هذه النعم ليست من الله ، مثل أن يعتقد أن هذه الأفلاك واجبة الوجود لذواتها ، واجبة الدوران (لذواتها) فيعتقد أن هذه النعم منها.
الثاني : أن يعتقد أن كلّ هذا العالم إنما حصل بتخليق الله وتكوينه إلا أن نعمة تعاقب الليل والنهار لما دامت واستمرت نسيها الإنسان ، فإذا ابتلي الإنسان بفقدان شيء منها عرف قدرها مثل أن يحبس في بئر عميق مظلمة مدّة مديدة ، فحينئذ يعرف ذلك الإنسان قدر نعمة الهواء الصافي وقدر نعمة الضوء ، وقد كان بعض الملوك يعذب بعض خدمه بأن يأمر أقواما يمنعونه من النوم وعن الاستناد إلى الجدار.
والثالث : أن الإنسان وإن كان عارفا بهذه النعم إلا أنه يكون حريصا على الدنيا ، محبّا المال والجاه ، فإذا فاته المال الكثير والجاه العريض وقع في كفران هذه النعم العظيمة ، ولما كان أكثر الخلق واقعون في أحد هذه الأودية الثلاثة لا جرم قال تعالى : (وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ). ونظيره قوله تعالى : (وَقَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ : ١٣] وقول إبليس : (وَلا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ)(١).
ولما بين الله تعالى بتلك الدلائل المذكورة وجود الإله القادر قال : (ذلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ). قال الزمخشري : ذلكم المعلوم المتميز بالأفعال الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد هو الله ربّكم ، خالق كل شيء (لا إِلهَ إِلَّا هُوَ) أخبار مترادفة أي هو الجامع لهذه الأوصاف من الإلهية والربوبية وخلق كل شيء وأنه لا ثاني له (٢). (فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ) أي فأنى تصرفون أي ولم تعدلون عن هذه الدلائل وتكذبون بها (٣)؟.
قوله : (خالِقُ كُلِّ شَيْءٍ) العامة على الرفع ، وزيد بن عليّ بالنصب (٤). قال الزّمخشريّ : «على الاختصاص» (٥). وقرأ طلحة يؤفكون بياء (٦) الغيبة. وقوله : «و (كَذلِكَ يُؤْفَكُ) أي مثل ذلك الإفك بمعنى (٧) كما أفكتم عن الحق مع قيام الأدلة كذلك يؤفك الّذين كانوا بآيات الله يجحدون يعني كلّ من (٨) جحد بآيات الله ولم يتأملها ولم يكن فيه عزم طلب الحقّ وخوف العاقبة أفك كما أفكوا.
__________________
(١) ١٧ من الأعراف. وانظر في هذا التفسير : الإمام الرازي ٢٧ / ٨٢ مع تغيير طفيف في العبارة.
(٢) ذكره جار الله الزمخشري في الكشاف ٣ / ٤٣٤.
(٣) ذكره الرازي في تفسيره ٢٧ / ٨٣.
(٤) من القراءة الشاذة غير المتواترة انظرها في الكشاف ٣ / ٤٣٤ والبحر المحيط ٧ / ٤٧٣.
(٥) الكشاف المرجع السابق.
(٦) انظر الكشاف والبحر المرجعين السابقين وذكر هذه القراءة أيضا هي وسابقتها السّمين في الدر ٤ / ٧٠٦.
(٧) قاله البغوي في معالم التنزيل ٦ / ١٠١ ، ١٠٢.
(٨) نقله الرازي في المرجع السابق.