بأمور الدنيا ومعرفتهم بتدبيرها (١) ، كقوله تعالى : (يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ) [الروم : ٧] (ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ) فلما جاءت الرسل بعلوم الديانات ومعرفة الله تعالى ، ومعرفة المعاد وتطهير النفس من الرذائل لم يلتفتوا إليها واستهزأوا بها ، واعتقدوا أنه لا علم أنفع وأجلب للفائدة من علمهم ففرحوا به.
وإن عاد الضمير إلى الأنبياء ففيه وجهان :
الأول : أن يفرح الرّسل إذا رأوا من قومهم جهلا كاملا وإعراضا عن الحقّ وعلموا سوء غفلتهم وما يلحقهم من العقوبة على جهلهم وإعراضهم يفرحوا بما أوتوا من العلم ، ويشكروا الله عليه «وحاق» بالكافرين جزاء جهلهم واستهزائهم.
الثاني : أن المراد أن الرسل فرحوا بما عندهم من العلم فرح ضحك (٢) واستهزاء.
قوله : (فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا) أي عذابنا (قالُوا آمَنَّا بِاللهِ وَحْدَهُ وَكَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ) أي تبرأنا مما كنا نعدل بالله ، البأس : شدة العذاب ، ومنه قوله تعالى : (بِعَذابٍ بَئِيسٍ) [الأعراف : ١٦٥]. قوله : (فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ) يجوز رفع «إيمانهم» اسما لكان ، و «ينفعهم» جملة خبرا مقدما ، ويجوز أن يرتفع بأنه فاعل ينفعهم ، وفي كان ضمير الشأن (٣).
وقد تقدم هذا محققا في قوله : (ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ) [الأعراف : ١٣٧] وأنه ليس من باب التنازع (٤). ودخل حرف النفي على الكون لا على النفي ؛ لأنه بمعنى لا يصح ولا ينبغي ، كقوله تعالى : (ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ)(٥).
واعلم أن المراد بالوقت الذي لا ينفع الإيمان فيه هو وقت معاينة نزول ملائكة الرحمة وملائكة العذاب لأن في ذلك الوقت يصير المرء ملجأ إلى الإيمان فذلك الإيمان لا ينفع.
قوله : (سُنَّتَ اللهِ) يجوز انتصابها على المصدر المؤكد لمضمون الجملة يعني إن الذي فعل الله بهم سنة سابقة من الله (٦) ، ويجوز انتصابها على التحذير ، أي احذروا (٧) سنة الله في المكذبين (الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ) ، وتلك السنة أنهم إذا عاينوا العذاب آمنوا
__________________
(١) المرجعين السابقين.
(٢) الرازي في مرجعه السابق.
(٣) قاله أبو حيان في البحر المحيط ٧ / ٤٧٩.
(٤) والتنازع هنا في الآية الذي يقصده تنازع فرعون «لكان» على أنه اسمها مؤخر ، و «ليصنع» على أنه فاعل ، فالتنازع هنا معمول لعاملين.
(٥) الآية ٣٥ من مريم. وانظر البحر المحيط ٧ / ٤٧٩ والكشاف ٣ / ٤٤٠.
(٦) قاله الزمخشري في الكشاف المرجع السابق ونقله عنه أبو حيان في بحره ٧ / ٤٧٩.
(٧) حكاه أبو حيان في البحر بدون نسبة.