الثاني : قوله تعالى : (شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ) [البقرة : ١٨٥] فقوله ههنا : (إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ) [الدخان : ٣] فيجب أن تكون تلك الليلة المباركة في رمضان فثبت أنها ليلة القدر.
الثالث : قوله تعالى : (تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ) [القدر:٤] وقال ههنا : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) وقال ههنا : (رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ) وقال في ليلة القدر : (سَلامٌ هِيَ) [القدر : ٥] ، وإذا تقاربت الأوصاف وجب القول بأن إحدى الليلتين هي الأخرى.
الرابع : نقل محمد بن جرير الطّبري في تفسيره عن قتادة أنه قال : نزلت صحف إبراهيم في أول ليلة من رمضان والتوراة لست ليال منه والزبور لثنتي عشرة ليلة مضت منه ، والإنجيل لثماني عشرة ليلة مضت منه ، والقرآن لأربع وعشرين مضت منه ، والليلة المباركة هي ليلة القدر.
الخامس : أن ليلة القدر إنما سميت بهذا الاسم لأن قدرها وشرفها عند الله عظيم ومعلوم أنه ليس قدرها وشرفها لسبب نفس الزمان ، لأن الزمان شيء واحد في الذات والصفات ، فيمتنع كون بعضه أشرف من بعض لذاته فثبت أن شرفه وقدره بسبب أنه حصل فيه أمور شريفة لها قدر عظيم ، ومن المعلوم أن منصب الدين أعظم من مناصب الدنيا ، وأعظم الأشياء وأشرفها منصبا في الدين هو القرآن ؛ لأنه ثبت به نبوة محمد ـ صلىاللهعليهوسلم ـ وبه ظهر الفرق بين الحق والباطل كما قال تعالى في صفته : (وَمُهَيْمِناً عَلَيْهِ)(١) وبه ظهرت درجات أرباب السعادات ودركات أرباب الشقاوات فعلى هذا لا شيء إلا والقرآن أعظم قدرا ، وأعلى ذكرا ، وأعظم منصبا ، وحيث أطبقوا على أن ليلة القدر هي التي وقعت في رمضان علمنا أن القرآن إنما أنزل في تلك الليلة. واحتج الآخرون على أنها ليلة النصف من شعبان بأن لها أربعة أسماء : الليلة المباركة ، وليلة البراءة ، وليلة الصكّ ، وليلة الرحمة ، ولأنها مختصة بخمس خصال : الأولى : قال تعالى : (فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ) والثانية : فضيلة العبادة فيها ، قال رسول الله ـ صلىاللهعليهوسلم ـ من صلّى في هذه اللّيلة أرسل الله تعالى إليه مائة ملك ، ثلاثون يبشرونه بالجنة ، وثلاثون يؤمّنونه من عذاب النار ، وثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا وعشرة يدفعون عنه مكايد الشيطان. الثالثة : نزول الرحمة قال ـ عليه الصلاة والسلام ـ «إنّ الله يرحم أمّتي في هذه اللّيلة بعدد شعر أغنام بني كلب» (٢). الرابعة : حصول المغفرة قال عليه الصلاة والسلام : «إنّ الله يغفر لجميع
__________________
(١) أخرجه التّرمذيّ بمعناه عن عائشة وانظر القرطبي ١٦ / ١٢٧ وانظر في هذا الكشاف ٣ / ٥٠٠ والرازي ٢٧ / ١٣٨.
(٢) لم أقف عليه أبدا.