وكذلك إن كان مبنى الكلام على الجحد وعقيبه إيجاب ، فهو كالإيجاب كقولك : " ما سرت إلا قليلا حتى أدخلها ، لأنه بمعنى : سرت قليلا حتى أدخلها ، والقليل قد يؤدي إلى الدخول كما يؤدي الكثير إليه.
وحكي سيبويه عن بعض النحويين أنهم لا يجيزون الرفع بعد" حتى" في ما لا يصلح فيه القلب ، وضعف قولهم واحتج عليهم أيضا بأنه لا فرق بين قولنا : " كنت سرت حتى أدخلها" ، وبين : سرت مرة الزمان حتى أدخلها لأنه يحسن فيه القلب ، تقول : سرت حتى أدخلها مرة في الزمان الأول.
وذكر سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها ، فأجاز الرفع والنصب في موضع ، ولم يجزه في موضع ، وذلك أن" إنما" تكون على وجهين :
أحدهما : تحقير الشيء ، والآخر : الاقتصار عليه.
فأما الاقتصار عليه : فأن تقول في رجل ادعي له شجاعة وكرم وغير ذلك : " إنما هو شجاع" ، فعلى هذا الوجه ترفع الفعل بعد" حتى" لأنك قد أثبت قبلها فعلا يؤدي إلى ما بعدها.
وأما تحقير الشيء : فقولك لمن تحقر صنيعه : إنما تكلمت فسكت لم تعتد بكلامه.
فعلى هذا الوجه نصب سيبويه : إنما سرت حتى أدخلها ، لأنه لم يعتد بسيره سيرا ، فصار بمنزلة المنفي وقبح الرفع ، لأنك لم تجعل السير مؤديا إلى الدخول فيكون منقطعا بالدخول ، ولا نصبت" يدخل" فيكون غاية السير. وهذا معنى قول سيبويه" ليس في اللفظ دليل على انقطاع السير يعني : إذا رفعت مع التحقير.
واعلم أنك إذا قلت : كثر ما سرت حتى أدخلها ، وطال ما سرت حتى أدخلها ، لم يجز فيه غير النصب لأنك لم تذكر فعلا يؤدي إلى الدخول ، وإنما نفيت فعلا ولم تثبت فعلا آخر ولهذا نصب سيبويه بعد قل ما سرت حتى أدخلها ، ولما كان نفيا لكثر ما سرت كما أن" ما سرت" نفي لقوله : سرت.
وقوله بأنه قبيح أن تقول : قلما سرت فأدخلها .. كقبح ما سرت فإذا أنا داخل. لأن الفاء تقتضي أن ما بعدها وقع عقب فعل اتصل به ، وأنت قد نفيت ما قبل الفاء. ولو قلت قل ما سرت فأدخلها فنصبت ، كان جيدا للنفي ، كما تقول : " ما أتيتنا فنكرمك". ولا يحسن : كثر ما سرت فأدخلها ، لأنه موجب.
والذي يعتبر القلب بنصب : ربما سرت حتى أدخلها ، لأنه لا يحسن أن تقول : " سرت حتى أدخلها ربما" ، وطال ما وكثر ما.
ثم قال سيبويه : فإن احتجوا ـ يعني في نصبها ـ بأنه غير سير واحد ، فرد كلامهم بأنه