وكان المبرد ينكر ذلك أشد الإنكار ، ويقول : لم يوجد ذلك في قرآن ولا كلام فصيح ولا شعر.
وقول سيبويه أصح بأنه حكاه عن العرب ، وهو غير متهم في حكايته ، وليس كل لغة توجد في كتاب الله عز وجل ، ولا كل ما يجوز في العربية يأتي به القرآن والشعر. وللمبرد مذاهب يجوزها لم توجد في قرآن وغيره. من ذلك إجازته : إن زيد قائما قياسا على ما زيد قائما وهذا لا يكاد يوجد له شاهد من شعر أو غيره.
واعلم أن العرب جعلت لمن يعقل اختصاصا في اللفظ يفصل بينه وبين ما لا يعقل ، وإنما ذلك لأن من يعقل يخاطب ويمر ويؤمر ، ويخبر ويخبر عنه ، وذلك الاختصاص جمعه مع السلامة. والحق ما لا يعقل بلفظ المؤنث لنقص رتبته عما يعقل كنقص رتبة المؤنث عن المذكر ، فجمع بالألف والتاء إذا سلم ، كما جمع مؤنث من يعقل. وسمي سيبويه ما لم يكن من الحيوان مواتا وإن كان في الحقيقة ليس من الحيوان ولا الموات لمساواته الموات في اللفظ.
فقال : " ومما جاء في القرآن من الموات ... قوله عز وجل : (فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ) [البقرة : ٢٧٥] والموعظة ليست من الموات بالحقيقة.
واعلم أن الجموع المكسرة مؤنثة كلها ، كانت لمن يعقل ولما لا يعقل أو المذكر أو المؤنث ، وحكم اللفظ في تأنيثها حكم تاء الواحد المؤنث تقول : هي الرجال وهي الجمال ، فتجري مجرى هي الجذوع ، وإنما ذلك لأنها خرجت عن الواحد الأول الأمكن الذي يقع ـ بالخلقة ـ فيه الفرق بين المذكر والمؤنث فأجري كله مجرى الموات ، تقول : جاء جواريك وجاء نساؤك فلا تلزمه التاء كما لزمت جاريتك ، لأن هذا التأنيث الحادث بجمع التكسير غير التأنيث الحقيقي الذي كان في الواحد. وكذلك ما لم يكسر عليه الواحد ، إلا أنه اسم للجمع كقولك : قال نسوتك ، لأن تأنيثها تأنيث جمع ، وواحد امرأة ، فحكمها حكم الجمع كما أن" من" لما كان في معنى الجمع ، جاز أن يرد لفظها على المعنى كقوله تعالى : (وَمِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ) [يونس : ٤٢].
قال : وتقول : مررت برجل أعور آباؤه ، كأنك تكلمت به على حد أعورين ، وإن لم يتكلم به كما توهموا في هلكى ومرضى وموتى أنّه فعل بهم ، فجاءوا به على مثال جرحى وقتلى.
قال النابغة :
* ولا يشعر الرمح الأصم كعوبه |
|
بثروة رهط الأبلخ المتظلم (١) |
__________________
(١) ديوان النابغة الجعدي ٢٤٤ ، شرح القصائد السبع الطوال ٣٤٧ ، الكتاب وشرح الأعلم ١ / ٢٣٧ ، شرح السيرافي ٣٢٥ ، شرح ابن السيرافي ١ / ٦٠٧.