ونعلم حقيقة هذا كله بحده وماهيته ، ولكن نجهل النسبة إلى الله في ذلك لجهلنا بذاته وقد منعنا وحذرنا وحجر علينا التفكر في ذاته ، وأنت يا عقل بنظرك تريد أن تعلم حقيقة ذات خالقك ، لا تسبح في غير ميدانك ، ولا تتعد في نظرك معرفة المرتبة ، لا تتعرض للذات جملة واحدة ، ومن أراد الدخول على الله فليترك عقله ويقدّم بين يديه شرعه ، فإن الله لا يقبل التقييد ، والعقل تقييد ، بل له التجلي في كل صورة كما له أن يركبك في أي صورة شاء ، فله سبحانه التحول في الصور ، وما قدروا الله حق قدره ، وما ثم حجاب ولا ستر ، فما أخفاه إلا ظهوره ، ولو وقفت النفوس مع ما ظهر لعرفت الأمر على ما هو عليه ، لكن طلبت أمرا غاب عنها فكان طلبها عين حجابها ، فما قدرت ما ظهر حق قدره لشغلها بما تخيلت أنه بطن عنها.
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ) (٧٥)
(اللهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً) الملائكة خاصة هي الرسل منهم ، وهم المسلمون ملائكة ، وكل روح لا يعطى رسالة فهو روح لا يقال فيه ملك إلا مجازا ، والرسالة في الملائكة دنيا وآخرة ، لأنهم سفراء الحق لبعضهم وصنفهم ولمن سواهم من البشر في الدنيا والآخرة ، (وَمِنَ النَّاسِ) والرسالة في البشر لا تكون إلا في الدنيا ، وينقطع حكمها في الآخرة ، وكذلك تنقطع في الآخرة بعد دخول الجنة والنار نبوة التشريع ، والرسالة لا يقبلها الرسول إلا بواسطة روح قدسي أمين ينزل بالرسالة على قلبه ، وأحيانا يتمثل له الملك رجلا ، وكل وحي لا يكون بهذه الصفة لا يسمى رسالة بشرية ، وإنما يسمى وحيا أو إلهاما أو نفثا أو إلقاء أو وجودا ، ولا تكون الرسالة إلا كما ذكرنا ، ولا يكون هذا الوصف إلا للرسول البشري ، وما عدا هذا من ضروب الوحي فإنه يكون لغير النبي والرسول ، والفرق بين النبي والرسول أن النبي إذا ألقى إليه الروح ما ذكرناه اقتصر بذلك الحكم على نفسه خاصة ، ويحرم أن يتبع غيره ، فهذا هو النبي فإذا قيل له بلغ ما أنزل إليك إما لطائفة مخصوصة كسائر الأنبياء ، وإما عامة للناس ولم يكن ذلك إلا لمحمد صلىاللهعليهوسلم ، لم يكن لغيره قبله ، فسمي بهذا الوجه رسولا ، والذي جاء به رسالة ، وما اختص به من الحكم في نفسه وحرم على غيره من ذلك الحكم هو نبي مع كونه رسولا ، وأعني بالنبوة هنا نبوة التشريع ، فالرسالة والنبوة