اعلم أنه لما لم يتمكن للتائب أن يرد عليه وارد التوبة إلا حتى ينتبه من سنة الغفلة ، فيعرف ما هو فيه من الأعمال التي مآلها إلى هلاكه وعطبه ، خاف ورأى أنه في أسر هواه ، وأنه مقتول بسيف أعماله القبيحة ، فقال له حاجب الباب الإلهي : قد رسم الملك أنك إذا أقلعت عن هذه المخالفات ، ورجعت إليه ووقفت عند حدوده ومراسمه ، أنه يعطيك الأمان من عقابه ، ويحسن إليك ويكون من جملة إحسانه أن كل قبيح أتيته يرد صورته حسنة ، ثم أعطاه التوقيع الإلهي ، فإذا مكتوب فيه (وَالَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللهِ إِلهاً آخَرَ ...) الآيات ، إلى قوله (إِلَّا مَنْ تابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ) وذلك نتيجة العمل الصالح فيقع التبديل ، فيبدل الله سيئاته حسنات ، حتى يود لو أنه أتى جميع الكبائر الواقعة في العالم من العالم ، وهذا من الكرم الإلهي ، فلا بد لطائفة من التبديل كبير بكبير ، ومن الناس من يبدله له بالتوبة والعمل الصالح ، ومن الناس من يبدله له بعد أخذ العقوبة حقها منه ، وسبب إنفاذ الوعيد في حق طائفة حكم المشيئة الإلهية ، فإذا انتهت المدة طلبت المشيئة في أولئك تبديل العذاب الذي كانوا فيه بالنعيم المماثل له ، فإن حكم المشيئة أقوى من حكم الأمر ، وقد وقع التبديل بالأمر فهو بالإرادة أحق بالوقوع ، ولو لا ما بين السيء والحسن مناسبة تقتضي جمعهما في عين واحدة يكون بها حسنا سيئا ما قبل التبديل ، ومثال ذلك : شخص في غاية الجمال طرأ عليه وسخ من غبار ، فنظف من ذلك الوسخ العارض ، فبان جماله ، ثم كسي بزة حسنة فاخرة ، تضاعف بها جماله وحسنه ، ولهذا وصف الذنوب بالمغفرة وهي الستر ، وما وصفها بذهاب العين ، وإنما يسترها بثوب الحسن الذي يكسوها به ، لأنه تعالى لا يرد ما أوجده إلى عدم ، بل يوجد على الدوام ولا يعدم. وستر الله هذا العلم عن بعض عباده ، وأطلع عليه من شاء من عباده ، وهو من علم الحكمة التي من أوتيها فقد أوتي خيرا كثيرا ، ولذلك قال الحق (وَكانَ اللهُ غَفُوراً) ـ الوجه الأول ـ أي يستر عمن يشاء الوقوف على مثل هذا كشفا ـ الوجه الثاني ـ غفورا لذنوبهم السابقة ، أي سترها عنهم ، فإن الله تعالى إذا قبل توبة عبده أنساه ذنبه فلم يذكّره إياه ، فإنه إن ذكره أحضره بينه وبين الحق ، وهو قبيح الصورة ، فجعل بينه وبين الحق صورة قبيحة تؤذن بالبعد فهذا فائدة النسيان ، والستر من الحق على نوعين : إما أن يستر الذنوب جملة واحدة ، وإما أن تبدل بحسنة فتحسن صورة تلك السيئة بالتوبة ، فتظهر له حسنة ، وذلك ليسرع العبد