فهي أعماله تعالى ، وأعماله كلها كاملة الحسن ، لا نقض فيها ولا قبح ، فإن السوء والقبح الذي كان ينسب إليها إنما كان ذلك بمخالفة حكم الله لا أعيانها ، فبدل الله سيئاتهم حسنات ، وما هو إلا تبديل الحكم لا تبديل العين ، فمن حكم في نفسه لنفسه ، وندم في يومه على ما فرط فيه من أمسه ، ليجبر بذلك ما فاته ، ويحيي منه بالندم ما أماته ، فإذا أقامه من قبره ، فذلك أوان نشره ، وأوان حشره ، فيبدل الله سيئاته حسنات ، وينقل من أسفل درجاته إلى أعلى الدرجات ، حتى يود لو أنه أتى بقراب الأرض خطايا ، أو لو حمل ذنوب البرايا ، لما يعاينه من حسن التحويل ، وجميل صور التبديل ، فيفوز بالحسنيين ، وهنالك يعلم ما أخفى له فيه من قرة عين ، ففاز في الدنيا باتباع الهوى ، وفي الآخرة بجنة المأوى ، فمن الناس من إذا حرم رحم ، وجوزي جزاء من عصم ، فجزاء بعض المذنبين أعظم من جزاء المحسنين ، ولا سيما أهل الكبائر ، والمنتظرين حلول الدوائر ، وذلك فضل الله يؤتيه من يشاء. لما نزلت هذه الآية قال وحشي قاتل حمزة رضي الله عنه : ومن لي بأن أوفق إلى العمل الصالح الذي اشترطه علينا في التبديل؟ فجاءه الجواب : (إِنَّ اللهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ) فقال وحشي : وما أدري هل أنا ممن شاء أن يغفر له أم لا؟ فجاءه الجواب : (يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللهِ إِنَّ اللهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ) فلما قرأ وحشي هذا قال : الآن فأسلم ، ولهذا قال حاجب الباب الإلهي وهو الشارع [إن التائب من الذنب كمن لا ذنب له] فيبدل سيئاته حسنات بالتوبة والعمل الصالح.
(وَمَنْ تابَ وَعَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللهِ مَتاباً (٧١) وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) (٧٢)
(وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ) شهادة الزور الميل إلى الباطل عن الحق ، فإن الزور هو الميل (وَإِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً) أي لم ينظروا لما أسقط الله النظر إليه ، فلم يتدنسوا بشيء منه ، فمروا به غير ملتفتين إليه (كِراماً) فما أثر فيهم ، فإنه مقام تستحليه النفوس ، وتقبل عليه للمخالفة التي جبلها الله عليه ، وهذه هي النفوس الأبية أي التي تأبى الرذائل ،