على صدق الرسل فيما أخبروا به عن الله ، فمع الدلالات التي نصبها الله للمرسل إليهم على صدق رسله واستيقنوها ، حملهم سلطان الحسد الغالب عليهم ، أن يجحدوا ما هم به عالمون موقنون بصدقهم ، من حيث الدلالة ، لا من حيث نور الإيمان المقذوف في القلب ، فإنه لم يحصل عندهم من ذلك النور شيء ، فعلم أن الإيمان لا تعطيه إقامة الدليل ، بل هو نور إلهي يلقيه الله في قلب من شاء من عباده ، وقد يكون عقيب الدليل ، وقد لا يكون هناك دليل أصلا ، وهؤلاء عرفوا الحق ، وجحدوا بما دلهم عليهم ، فهؤلاء جاحدون معاندون ، ثم ذكر تعالى العلة فقال : (ظُلْماً) أي ظلموا بذلك أنفسهم (وَعُلُوًّا) على من أرسل إليهم ، فاندرج في ذلك علوهم على الله فذم الله من طلب علوا في الأرض ، فإنه من رياسة النفوس ، فقال : (فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ) ولما كان لا يلزم العالم بالحق الإقرار به في الظاهر ، وإنما يستلزمه التصديق به في الباطن ، فهو مصدق به وإن كذّبه باللسان ، فقد عمل بما علم ، وهو التصديق ، لكن ما كل عمل يعطي عموم النجاة ، بل يعطي من النجاة قدرا مخصوصا من عموم أو خصوص. وأي آية كانت للعرب معجزة مثل القرآن؟ وقد قال تعالى فيه : (ذلِكَ بِأَنَّ اللهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ).
(وَلَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَسُلَيْمانَ عِلْماً وَقالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (١٥) وَوَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَقالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ) (١٦)
النطق سار في العالم كله ، ولا يختص به الإنسان ، كما جعلوه فصله المقوم له بأنه حيوان ناطق ، فالكشف لا يقول بخصوص هذا الحدّ في الإنسان ، وإنما حد الإنسان بالصورة الإلهية خاصة ، ومن ليس له هذا الحد فليس بإنسان ، وإنما هو حيوان يشبه في الصورة ظاهر الإنسان ، فاطلب لصاحب هذا الوصف حدا يخصه ، كما طلبته لسائر الحيوان.
(وَحُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (١٧) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ