الرفعة من الله ـ الذي له العلو الذاتي ـ حفظ على كل من أعلى الله منزلته علوه ، ومن علا بنفسه من الجبارين والمتكبرين قصمه الله وأخذه للكبرياء الذي كان عليه في نفسه ، ولهذا قال : (وَالْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ) ، أي عاقبة العلو الذي علا به من أراد علوا في الأرض يكون للمتقين ، أي يعطيهم الله العلو في المنزلة في الدنيا والآخرة ، فأما في الآخرة فأمر لازم لا بد منه ، لأن وعده صدق وكلامه حق ، والدار الآخرة محل تميز المراتب وتعيين مقادير الخلق عند الله ومنزلتهم منه تعالى ، فلا بد من علو المتقين يوم القيامة ، وأما في الدنيا فإنه كل من تحقق صدقه في تقواه وزهده ، فإن نفوس الجبارين والمتكبرين تتوفر دواعيهم إلى تعظيمه ، لكونهم ما زاحموهم في مراتبهم ، فأنزلهم ما حصل في نفوسهم من تعظيم المتقين عن علوهم وقصدوا خدمتهم والتبرك بهم ، وانتقل ذلك العلو الذي ظهروا به إلى هذا المتقي ، وكان عاقبة العلو للمتقي والجبار لا يشعر ، ويلتذ الجبار إذا قيل فيه إنه قد تواضع ونزل إلى هذا المتقي ، فيتخيل الجبار أن المتقي هو الأسفل وأن الجبار نزل إليه ، بل علو الجبار انتقل إلى المتقي من حيث لا يشعر ، ونزل الجبار تحت علو هذا المتقي ، ولو سئل المتقي عن علوه ما وجد عنده منه شيء ، فثبت أن العلو في الإنسان إنما هو تحققه بعبوديته ، وعدم خروجه واتصافه بما ليس له بحقيقة ، فاحذر يا ولي أن تريد علوا في الأرض فإن من أراده أراد الولاية ، وقال عليهالسلام : [إنها يوم القيامة حسرة وندامة] ، والزم الخمول وإن أعلى الله كلمتك فما أعلى إلا الحق ، وإن رزقك الرفعة في قلوب الخلق ، فذلك إليه عزوجل ، والذي يلزمك التواضع والذلة والانكسار ، فإنه إنما أنشأك من الأرض فلا تعلو عليها فإنها أمك ، ومن تكبر على أمه فقد عقّها ، وراقب الله فيما أعطاك ، من رفعة في الأرض ، بولاية وتقدّم تخدم من أجله ويغشى بابك ويلزم ركابك ، فلا تبرح ناظرا لعبوديتك وأصلك ، واعلم أن تلك الرفعة إنما هي للرتبة والمنصب لا لذاتك ، فالذي أوصيك به أنك لا تريد علوا في الأرض ، وإن أعطاك الله لا تطلب أنت من الله إلا أن تكون في نفسك صاحب ذلة ومسكنة وخشوع.
(مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَمَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) (٨٤)