جعل الدنيا عبرة جسرا يعبر ، أي تعبر كما تعبّر الرؤيا التي يراها الإنسان في نومه ، فكما أن الذي يراه الرائي في حال نومه ما هو مراد لنفسه إنما هو مراد لغيره ، فيعبر من تلك الصورة المرئية في حال النوم إلى معناها المراد بها في عالم اليقظة إذا استيقظ من نومه ، كذلك حال الإنسان في الدنيا ما هو مطلوب للدنيا ، فكل ما يراه من حال وقول وعمل في الدنيا إنما هو مطلوب للآخرة ، فهناك يعبر ويظهر له ما رآه في الدنيا ، كما يظهر له في الدنيا إذا استيقظ ما رآه في المنام ، فالدنيا جسر يعبر ولا يعمر ، كالإنسان في حال ما يراه من نومه يعبّر ولا يعمّر ، فإنه إذا استيقظ لا يجد شيئا مما رآه ، من خير يراه أو شر ، وديار وبناء وسفر ، وأحوال حسنة أو سيئة ، فلا بد أن يعبّر له العارف بالعبارة ما رآه فيقول له : تدل رؤياك لكذا ، على كذا ، فكذلك الحياة الدنيا منام ، إذا انتقل إلى الآخرة بالموت لم ينتقل معه شيء مما كان في يده وفي حسه ، من دار وأهل ومال ، كما كان حين استيقظ من نومه لم ير شيئا في يده مما كان له حاصلا في رؤياه في حال نومه ، فلهذا قال تعالى : إننا في منام بالليل والنهار ، وفي الآخرة تكون اليقظة ، وهناك تعبر الرؤيا ، فمن نور الله عين بصيرته وعبر رؤياه هنا قبل الموت أفلح ، ويكون فيها مثل من رأى رؤيا ثم رأى في رؤياه أنه استيقظ ، فيقص ما رآه وهو في النوم على حاله على بعض الناس الذين يراهم في نومه فيقول : رأيت كذا وكذا ، فيفسره ويعبره له ذلك الشخص بما يراه في علمه بذلك ، فإذا استيقظ حينئذ يظهر له أنه لم يزل في منام ، في حال الرؤيا وفي حال التعبير لها ، وهو أصح التعبير ، وكذلك الفطن اللبيب في هذه الدار مع كونه في منامه يرى أنه استيقظ ، فيعبر رؤياه في منامه لينتبه ويزدجر ويسلك الطريق الأسدّ ، فإذا استيقظ بالموت حمد رؤياه ، وفرح بمنامه وأثمرت له رؤياه خيرا ، فلهذه الحقيقة ما ذكر الله في هذه الآية اليقظة وذكر المنام ، وأضافه إلينا بالليل والنهار ، وكان ابتغاء الفضل فيه في حق من رأى في نومه أنه استيقظ في نومه فيعبر رؤياه ، وهي حال الدنيا ، فهذا تفصيل آيات المنام بالليل والنهار والابتغاء من الفضل ، وجعله (لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ) أي يفهمون عن الله ، فهم أهل الفهم عن الله ، فإن الله تعالى قال : (وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ) أي لا يفهمون.
(وَمِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَطَمَعاً وَيُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ