انهزم نبي قط لقوة إيمانه بالحق ، وقد توعد الله المؤمن إذا ولّى دبره في القتال لغير قتال أو انحياز إلى فئة تعضده ، فقال : (يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ ، وَمَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللهِ) فخاطب أهل الإيمان ، وبقرائن الأحوال علمنا أنه تعالى أراد المؤمنين بالحق ، وأرسل الآية في اللفظ دون تقييد بمن وقع الإيمان به ، لكن قرائن الأحوال تخصص وتعطي العلم المقصود من ذلك ، غير أن الحق ما أرسلها مطلقة إلا ليقيم الحجة على الذين آمنوا بالباطل إذا هزمهم الكافرون بالطاغوت لما دخلهم من خلل في إيمانهم بالباطل ، وهو عندنا ليس بنصر ذلك الظهور الذي للمؤمنين بالباطل على الكافرين بالطاغوت ، وإنما المؤمنون بالحق لما تراءى الجمعان ، كان في إيمانهم خلل ، فأثر فيه الجبن الطبيعي ، فزلزل أقدامهم فانهزموا في حال حجاب عن إيمانهم بالحق ، ولا شك أن الخصم إذا رأى خصمه انهزم أمامه وفر وأخلى له مكانه ، لا بد أن يظهر عليه ويتبعه ، فإن شئت سميت ذلك نصرا من الله لهم ، فما انتصروا على المؤمنين بالحق وإنما انتصروا على وجه الخلل الذي دخل في إيمانهم واستتر عنهم بالخوف الطبيعي ، فكانوا كفارا من ذلك الوجه ، فكان نصرهم نصر الكفار بعضهم على بعض وهم المؤمنون بالباطل ، لأن هؤلاء المؤمنين بالحق آمنوا بما خوفهم به الطبع من القتل وهو باطل ، فآمنوا بالباطل لخوفهم من الموت ؛ والشهيد ليس بميت فإنه حيّ يرزق ، فلمّا آمنوا به أنه موت آمنوا بالباطل ، فهزم أهل الباطل أهل الباطل ، وهذا يسمى ظهورا لا نصرا ، إلا إذا جعلت الألف واللام للجنس فتشمل كل مؤمن بأمر ما من غير تعيين ، وليس المؤمن إلا من لم يدخل إيمانه بأمر ما خلل يقدح في إيمانه ، ومن ذلك يعلم أن الصدق سيف الله في الأرض ، ما قام بأحد ولا اتصف به إلا نصره الله ، لأن الصدق نعته والصادق اسمه ، فينصر الله المؤمن الذي لم يدخله خلل في إيمانه على من دخله خلل في إيمانه ، فإن الله يخذله على قدر ما دخله من الخلل ، أي مؤمن كان من المؤمنين ، فالمؤمن الكامل منصور أبدا ، ولهذا ما انهزم نبي قط ولا ولي ، ألا ترى يوم حنين لما ادعت الصحابة رضي الله عنهم توحيد الله ، ثم رأوا كثرتهم فأعجبتهم كثرتهم فنسوا الله عند ذلك فلم تغن عنهم كثرتهم شيئا ، مع كون الصحابة مؤمنين بلا شك ، ولكن دخلهم الخلل باعتمادهم على الكثرة ، ونسوا قول الله (كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ) فما أذن الله هنا إلا للغلبة ، فأوجدها