أعم ، فاعلم أن التعريف الذي جاء به عيسى ما هو تعريف عين بل هو تعريف جنس ، فلا فرق بينه بالألف واللام وبين عدمهما ، فعيسى ويحيى في السلام على السواء كما هما في الصلاح كذلك ، فإن الله تعالى قال عن يحيى عليهالسلام (وَنَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ) فعيّنه في النكرة ، وقال في عيسى (ومن الصالحين) فعيّنه في النكرة.
(وَاذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (١٦) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) (١٧)
جبريل عليهالسلام هو الذي تمثل لمريم بشرا سويا عند إيجاد عيسى عليهالسلام في حضرة الخيال المحسوس يقظة ، فانتقل حكم البشر إلى الروح لما ظهر بصورة البشر ، فأعطى الولد الذي هو عيسى ، وليس ذلك من شأن الأرواح ، ولكن انتقل حكم الصورة إليها بقبوله للصورة. واعلم أن الأرواح لها اللطافة ، فإذا تجسدت وظهرت بصورة الأجسام كثفت في عين الناظر إليها ، والأجسام لها الكثافة شفافها وغير شفافها ، فإذا تحولت في الصور في عين الرائي أو احتجبت مع الحضور فقد تروحنت ، أي صار لهم حكم الأرواح في الاستتار ، وأما سبب كثافة الأرواح وهي من عالم اللطف فلكونهم خلقوا من الطبيعة ، وإن كانت أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة كنور السراج ، فلهذا قبلوا الكثافة ، فظهروا بصور الأجسام الكثيفة ، كما أثر فيهم الخصام حكم الطبيعة لما فيها من التقابل والتضاد ، فمن هذه الحقيقة التي أورثتهم الخصومة تجسدوا في صور الأجسام الكثيفة ، وأما الكثيف يرجع لطيفا فسببه التحليل ، فإن الكثائف من عالم الاستحالة ، وكل ما يقبل الاستحالة يقبل الصور المختلفة والمتضادة ، والأرواح لا تتشكل إلا فيما تعلمه من الصور ، ولا تعلم شيئا منها إلا بالشهود ، فكانت الأرواح تتصور في كل صورة في العالم إلا في صورة الإنسان قبل خلق الإنسان ، فإن الأرواح وإن كان لها التصور فما لها القوة المصورة كما للإنسان ، فإن القوة المصورة تابعة للفكرة التي هي صفة للقوة المفكرة ، فالتصور للأرواح من صفات ذات الأرواح النفسية لا المعنوية ، لا لقوة مصورة تكون لها ، إلا أنها وإن كان لها التصور ذاتيا فلا تتصور إلا فيما أدركته من صور العالم الطبيعي ، وقوله تعالى (فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا) تنبيها على المباشرة ، فإنه لا يوجد أحد من بني آدم إلا عن مباشرة ، فكان الروح واسطة