في نفسه طلب ذلك كله وحبه ذلك ، لأنه خلقه الله على صورته ، وله تعالى العزة والكبرياء والعظمة ، فسرت هذه الأحكام في العبد ، فإنها أحكام تتبع الصورة التي خلق عليها الإنسان وتستلزمها ، فرجال الله هم الذين لم يصرفهم خلقهم على الصورة عن الفقر والذلة والعبودية ، وإذا وجدوا هذا الأمر الذي اقتضاه خلقهم على الصورة ولا بد ، ظهروا به في المواطن التي عيّن لهم الحق أن يظهروا بذلك فيها ، فإن المقرّب لا يبقي له القرب والجلوس مع الحق والتحدث معه اسما إلهيا من الأسماء المؤثرة في العالم ولا من أسماء التنزيه ، وإنما يدخل عليه بالذلة لشهود عزّه ، وبالفقر لشهود غناه ، وبالتهيؤ لنفوذ قدرته (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) ـ الوجه الأول ـ هو الغني عنكم ، فالغنى لله ، وهو المثنّي عليه بهذه الصفة ، فكان الاسم الغني لله ، والإنسان فقير ، وفقره لا يكون إلا إلى الله الغني ـ الوجه الثاني ـ (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ) اعلم أن الله تعالى لا يعلم بالدليل أبدا ، لكن يعلم أنه موجود ، وأن العالم مفتقر إليه افتقارا ذاتيا لا محيص عنه البتة ، إذ لا مناسبة بين الله تعالى وبين خلقه من جهة المناسبة التي بين الأشياء ، وهي مناسبة الجنس أو النوع أو الشخص ، فليس لنا علم متقدم بشيء فندرك به ذات الحق لما بينهما من المناسبة ، فليس بين الباري والعالم مناسبة فيعلم بعلم سابق بغيره أبدا ، كما يزعم بعضهم من استدلال الشاهد على الغائب بالعلم والإرادة والكلام وغير ذلك ، ثم يقدسه بعد ما قد حمله على نفسه وقاسه بها (الْحَمِيدُ) يعني بأسمائه ، وجاء بالحميد على وزن فعيل ، فعمّ اسم الفاعل بالدلالة الوضعية واسم المفعول ، فهو الحامد المحمود ، وإليه ترجع عواقب الثناء كلها ، وما يثنى عليه إلا بنا من حيث وجودنا ، فهو المثنى عليه بكل ما يفتقر إليه ، فمن كونه محمودا وهو قول : [الحمد لله] لا لغيره ، فإنه ما في العالم لفظ لا يدل على ثناء البتة ، أعني ثناء جميلا ، وأن مرجعه إلى الله ، فإنه لا يخلو أن يثني المثني على الله أو على غير الله ، فإذا حمد الله فحمد من هو أهل الحمد ، وإذا حمد غير الله فما يحمده إلا بما يكون فيه من نعوت المحامد ، وتلك النعوت مما منحه الله إياها وأوجده عليها ، إما في جبلته أو في تخلقه فتكون مكتسبة له ، وعلى كل وجه فهي من الله ، فكان الحق معدن كل خير وجميل ، فرجع عاقبة الثناء على المخلوق بتلك المحامد على من أوجدها وهو الله ، فلا محمود إلا الله ، وما من لفظ يكون له وجه إلى مذموم إلا وفيه وجه إلى محمود ، فهو من حيث أنه محمود يرجع إلى الله ، ومن حيث ما هو مذموم لا حكم له ، لأن مستند