به حتى ينطلق عليها اسم الغني ، وتخرج عن اسم الفقير ، وهذا من غوائل النفوس المبطونة فيها ، وصاحب مقام العبودة يسري ذوقه في كل ما سوى الله أنه عبد كهو لا فرق ، ويرى أن كل ما سوى الله محل جريان تعريفات الحق له ، فيفتقر إلى كل شيء فإنه ما يفتقر إلا إلى الله ، ولا يرى أن شيئا يفتقر إليه في نفسه ، وإن أفاد الله الناس على يديه فهو عن ذلك في نفسه بمعزل ، ويرى أن كل اسم تسمى به شيء مما يعطيه فائدة أن ذلك اسم الله ، غير أنه لا يطلقه عليه حكما شرعيا وأدبا إلهيا ، فما خلق الله العالم على قدم واحدة إلا في شيء واحد وهو الافتقار ، فالفقر له ذاتي والغنى له أمر عرضي ، فالعبد له الفقر المطلق إلى سيده ، والحق له الغنى المطلق عن العالم ، فالعالم المحقق لا يزال الأمر الذاتي من كل شيء ومن نفسه مشهودا له دائما دنيا وآخرة ، فلا يزال عبدا فقيرا تحت أمر سيده ، لا يستغني عن ربه ، فإن الحقيقة تأبى أن يفتقر إلى غير الله ، وقد أخبر الله أن الناس فقراء إلى الله على الإطلاق ، والفقر حاصل منهم ، فعلمنا أن الحق قد ظهر في صورة كل ما يفتقر إليه فيه ، والفقير من يتناول الأسباب على أوضاعها الحكمية لا يخل بشيء منها ، وهو الذي يفتقر إلى كل شيء وإلى نفسه ولا يفتقر إليه شيء ، وهو العبد المحض عند المحققين فإن الله يقول من باب الغيرة الإلهية (يا أَيُّهَا النَّاسُ) وما خص مؤمنا ولا غيره (أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللهِ) فكنّى عن نفسه في هذه الآية بكل ما يفتقر إليه ، أي فما افتقرتم إليه من الأشياء هو لنا وبأيدينا ، وما هو لنا لا يطلب إلا منا ، فإلينا الإفتقار لا إليه ، إذ هو غير مستقل إلا بنا ، فما افتقر فقير إلا إلى الله ، عرف ذلك الشخص أو لم يعرفه ، وهذا الفقير المتحقق بفقره إلى الله لا تظهر عليه صفة غنى بالله ولا بغير الله ، فيفتقر إليه من ذلك الوجه فصح له مطلق الفقر ، فإن الذلة والافتقار لا تكون من الكون إلا لله تعالى ، فكل من تذلل وافتقر إلى غير الله تعالى واعتمد عليه وسكن في كل أمره إليه فهو عابد وثن ، والمفتقر إليه يسمى وثنا ، ويسميه المفتقر إلها (وَاللهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ) أي المثنى عليه بصفة الغني عن العالم.
خزائن الجود ما انسدت مغالقها |
|
لو انتهت لانته في العالم الفقر |
وفقره دائم لا ينتهي أبدا |
|
كذاك نائله لا ينقضي عمر |
الفقر بالذات ذاتي لصاحبه |
|
ولو يدوم له من ربه اليسر |
ما قلت إلا الذي قال الإله لنا |
|
فينا ففي كل يسر مدرج عسر |