كانت الملائكة من عالم الطبيعة ، وإن كانت أجسامهم نورية فمن نور الطبيعة ، كنور السراج ، فأثر فيهم حكم الطبيعة الخصام لما فيها من التقابل والتضاد ، والضد والمقابل منازع لمقابله ، فهذه هي الحقيقة التي أورثتهم الخصومة ، ونعتوا بأنهم يختصمون لأن الخصام لا يكون إلا فيمن ركب من الطبائع لما فيها من التضاد ، فلا بد فيمن يتكون عنها أن يكون على حكم الأصل ، فالنور الذي خلقت منه الملائكة نور طبيعي ، فكانت فيها الموافقة من وجه والمخالفة من وجه ، فهذا سبب اختلاف الملأ الأعلى فيما يختصمون فيه. ومما دعا الملأ الأعلى إلى الخصام التخيير في الكفارات ، والتخيير حيرة فإنه يطلب الأرجح أو الأيسر ، ولا يعرف ذلك إلا بالدليل ، فلو أن الله يعلمهم بما هو الأفضل عنده من هذه الأعمال والأحب إليه ما تنازعوا ، ولو أنهم يكشفون ارتباط درجات الجنان بهذه الأعمال لحكموا بالفضيلة للأعلى منها ، وإنما الله سبحانه غيّب عنهم ذلك ، فهم في هذه المسئلة بمنزلة علماء البشر إذا قعدوا في مجلس مناظرة فيما بينهم في مسئلة من الحيض الذي لا نصيب لهم فيه ، بخلاف المسائل التي لهم فيها نصيب ، وإنما قلنا ذلك لأن الكفارات إنما هي لإحباط ما خالف فيه المكلف ربه من أوامره ونواهيه ، والملائكة قد شهد الله لهم بالعصمة أنهم لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون به ، وما بلغنا أن عندهم نهي ، وإذا لم يعصوا وكانوا مطيعين فليس لهم في أعمال الكفارات قدم ، فهم يختصمون فيما لا قدم لهم فيه ، وكذلك ما بقي من الأعمال التي لا قدم لهم فيها ، فهم مطهرون فلا يتطهرون فلا يتصفون في طهارتهم بالإسباغ والإبلاغ في ذلك وغير الإسباغ ، وكذلك المشي إلى مساجد الجماعات لشهود الصلوات ليس لهم هذا العمل ، فإن قلت : فإنهم يسعون إلى مجالس الذكر ، ويقول بعضهم لبعض : هلموا إلى بغيتكم. فاعلم أن الذكر ما هو عين الصلاة ، ونحن إنما نتكلم في عمل خاص في الجماعة ليس لهم فيه دخول مثل ما لبني آدم ، فإنهم ليسوا على صور بني آدم بالذات ، وإنما لهم التشكل فيهم ، وقد علم جبريل عليهالسلام رسول الله صلىاللهعليهوسلم الصلوات بالفعل ، وتلك من جبريل حكاية يحكيها للتعليم والتعريف بالأوقات ؛ وأما التعقيب إثر الصلوات فإنما ذلك للمصلين على هذه الهيئة المخصوصة التي ليست للملائكة ، فما اختصموا في أمر هو صفتهم ، فلهذا ضربنا مسئلة الحيض مثلا ، وسبب ذلك أن الملائكة تدعو بني آدم في لماتها إلى العمل الصالح وترغبهم في الأفضل ، فلهذا اختصمت في الأفضل حتى تأمرهم به. وأما