وقوة نسبتها إلى الحق أوجه من طلبها الخلق. ولما كانت الأسماء الإلهية نسبا تطلبها الآثار ، لذلك لا يلزم ما تعطل حكمه منها ما لم يتعطل ، وإنما يقدح ذلك لو اتفق أن تكون أمرا وجوديا ، فالله إله سواء وجد العالم أو لم يوجد ، فلذلك قلنا : إنه سبحانه لو رحم العالم كله لكان ، ولو عذب العالم كله لكان ، ولو رحم بعضه وعذب بعضه لكان ، ولو عذبه إلى أجل مسمى لكان ، فإن الواجب الوجود لا يمتنع عنه ما هو ممكن لنفسه ، ولا مكره له على ما ينفذه في خلقه ، بل هو الفعال لما يريد ، ولما كانت الصفات نسبا وإضافات ، والنسب أمور عدمية ، وما ثمّ إلا ذات واحدة من جميع الوجوه ، لذلك جاز أن يكون العباد مرحومين في آخر الأمر ، ولا يسرمد عليهم عدم الرحمة إلى ما لا نهاية له إذ لا مكره له على ذلك ، والصفات والأسماء ليست أعيانا توجب حكما عليه في الأشياء ، فلا مانع من شمول الرحمة للجميع ، ولا سيما وقد ورد سبقها للغضب ، فإذا انته الغضب إليها كان الحكم لها ، فكان الأمر على ما قلناه ، ولذلك قال تعالى (ولو شاء ربك لهدى الناس جميعا) فكان حكم هذه المشيئة في الدنيا بالتكليف ، وأما في الآخرة فالحكم لقوله (يَفْعَلُ ما يُرِيدُ) فمن يقدر أن يدل على أنه لم يرد إلا تسرمد العذاب على أهل النار ولابد ، أو على واحد في العالم كله؟ فكل ما ذكر في قوله : لو شاء ، ولئن شئنا ، لأجل هذا الأصل ، فله الإطلاق وما ثمّ نص يرجع إليه لا يتطرق إليه الاحتمال في تسرمد العذاب كما لنا في تسرمد النعيم ، فلم يبق إلا الجواز ، وأنه رحمن الدنيا والآخرة ، والأسماء الإلهية منها مشتركة وإن كان لكل واحد من المشتركة معنى ، إذا تبين ظهر أنها متباينة ، فالأصل في الأسماء التباين ، والاشتراك فيه لفظي ، ومنها متباينة ، ومنها مترادفة ومع ترادفها فلابد أن يفهم من كل واحد معنى لا يكون في الآخر ، فعلمنا ما سمى به نفسه واقتصرنا عليها ، وقيدت الأسماء بالحسنى لدلالتها على المسمى الأسمى.
(وَهَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (٩) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً) (١٠)
(إِنِّي آنَسْتُ ناراً) أي أبصرت نارا ، من آنست الشيء إذا أبصرته ، ويدل أيضا على