فلما رأى من حال الحاضرين أمارة العصيان ؛ وشاهد منهم إثارة الفتنة وتهييج الشر ، خاف من أن يكون في الوصية وتأكيد التنصيص على من عيّنه الله للإمامة ، وجعله أولى الناس من أنفسهم في غدير خم ، أمارة على تعجيل الفتنة بين المسلمين ، وتفريق كلمتهم ، فيتسلط بذلك الكفّار وأهل الرّدة عليهم ، وينهدم أساس الإسلام ودعائم الإيمان ، وذلك لأن الراغبين في الإمامة والطامعين في الملك والخلافة قد علموا من مرضه صلىاللهعليهوآلهوسلم وإخباره تصريحا وتلويحا في عدة مواقف بأنه صلىاللهعليهوآلهوسلم قد دنا أجله ، ولا يبرأ من مرضه ، فوطّنوا أنفسهم لإلقاء الشبهة بين المسلمين بأنه لو كتب الكتاب وأكّد الوصيّة بأنه على وجه الهجر والهذيان ، فيصدّقهم الذين في قلوبهم مرض ، ويكذّبهم المؤمنون بأن كلامه ليس إلا وحيا يوحى ، فتقوم فيهم المحاربة والقتال وينتهي الحال إلى استئصال أهل الإيمان وظهور أهل الشرك والطغيان ، فاكتفى صلىاللهعليهوآلهوسلم بنصّه يوم الغدير وغيره.
وقد بلّغ الحكم وأدّى رسالة ربه كما أمره بقوله : (يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ) (١) فلم يكن في ترك الكتابة تقصير في التبليغ والرسالة ، وإنما منعت طائفة من الأمة لشقاوتهم ذلك الفضل ، وسدّوا باب الرحمة ، فضلّوا عن سواء الصراط وأضلّوا كثيرا (وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ) (٢).
٢ ـ إن القوم لم يتركوا للنبيّ صلىاللهعليهوآلهوسلم مجالا كي يكتب تلك الوصية ، ويشهد له ما رواه ابن عبّاس من أن الرزية كل الرزيّة ما حال بين رسول الله وبين الكتابة.
فهناك من حال ومنع من كتابة الكتاب ، والمانع هو عمر بن الخطّاب وجماعته ، حيث سيطروا على الموقف لعلمهم أن أمير المؤمنين لن يدافعهم لكونه
__________________
(١) سورة المائدة : ٦٧.
(٢) سورة الشعراء : ٢٢٧.