ثم لو سلّمنا صدق الخبر إلى آخره فلا شكّ في أنه يتضمّن أن عمر ردّ قول النبيّصلىاللهعليهوآلهوسلم على أخشن الوجوه وأقبحها ، كما هو دأب الطغام والأجلاف ، ومع قطع النظر عما عرفت وستعرف من عدم جواز الاجتهاد في مقابلة النصّ ، وأنّ الردّ عليه صلىاللهعليهوآلهوسلم ردّ على الله ، وهو على حدّ الشرك بالله ، كيف يجوز هذا النوع من سوء الأدب والغلظة في مقام الردّ على المجتهد ولو كان مخطئا وهو مأجور في خطئه وقد أمكنه أن يردّ أبا هريرة برفق ويناظر برسول الله ويوقفه على خطئه.
ثم من أين استحقّ أبو هريرة أن يضرب على صدره حتى يقع على استه ، ولم يقدم على أمر سوى طاعة رسول الله صلىاللهعليهوآلهوسلم وطاعة الله ، وقد أمر الله تعالى بها في زهاء عشرين موضعا من كتابه ، بقوله : (أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ) (١).
وأمّا رجوعه صلىاللهعليهوآلهوسلم عن الأمر بتبشير الناس فعلى تقدير صحّته لا دلالة فيه على اجتهاده ، وخطئه في رأيه ، ولا نفي الشناعة عن فعل عمر ، لجواز أن يكون الرجوع لنزول النسخ بالوحي لمصلحة يعلمها الله تعالى ، ويمكن أن يكون لمصلحة تأليف قلب هذا الفظّ الغليظ كما أمر الله سبحانه بذلك في سائر المنافقين لئلا ينفضّوا عن رسوله فيلحق بالإسلام ضرر أعظم من فوت المصلحة بترك التبشير في ذلك الوقت.
ولا يخفى أنّ الاجتهاد المذكور ممّا لم يجوّزه كثير من العامة ، لكون المسألة مما يتعلق بأمور الدين لا الحروب وأمور الدنيا ، قد صرّح بذلك شارح صحيح مسلم في شرح هذا الخبر ، وقال : عدم جواز الخطأ عليه في الأمور الدينية مذهب المحقّقين.
وحكى عن شيخه أبي عمرو بن الصلاح توجيه النّافين للاجتهاد المذكور : بأنّه كان لوحي ناسخ للوحي السابق (٢).
__________________
(١) سورة النساء : ٥٩.
(٢) شرح النووي على صحيح مسلم ج ١ / ٢١٢ ط / دار الكتب العملية.