قلنا :
إن هذا المعنى للنسخ مستحيل عليه تعالى لكونه بهذا المعنى يستدعي تبدل رأي المشرّع بظهور خطأ أو نقص في تشريعه السابق ، والخطأ مستحيل على الذات الإلهية لاستلزامه الفقر وهو منزّه تعالى عنه ، وهذا المعنى من التشريع إنما يخص اولئك المشرّعين الذين لا يحيطون بالمصالح والمفاسد الكامنة وراء الواقع ، أما العالم بالواقع وبالخفايا المحيط بكل شيء ، مثل هذا يمتنع عليه الخطأ عقلا وشرعا.
فالنسخ المنسوب إليه تعالى ـ كما في نسخ حكم قبلة بيت المقدس بحكم قبلة الكعبة المشرّفة ـ إنما هو نسخ في ظاهره ، أما الواقع فلا نسخ أصلا ، وإنما هو حكم مؤقت وتشريع محدود من أول الأمر ، والله سبحانه لم يشرّعه حين شرّعه إلا وهو يعلم أن له أمدا ينتهي إليه ، وإنما المصلحة الواقعية اقتضت هذا التشريع المؤقت ، وقد شرّعه الله تعالى وفق تلك المصلحة المحدودة من أول الأمر ، ولكن لمصلحة في التكليف أخفى الله تعالى بيان الأمد وأجله إلى وقته المحدود ثم في نهاية الأمد جاء البيان إلى الناس : إن هذا التشريع قد انتهى بهذا الأجل ، فالنسخ في الحقيقة ليس سوى تأخير بيان الأمد المضروب من الأول ، ولعلّ في تأخير هذا البيان مصلحة للأمة كالتشديد على العباد بالتكليف وتسبيبا لهم لمزيد الأجر ، أو لنقصان في قابلياتهم فاستدعى إخفاء البيان تلطفا بهم.
والمشهور أن القرآن ينسخ بالقرآن والسنّة المتواترة ، وكذا تنسخ السنة المتواترة بالكتاب أو بمثلها.
وقد خالفهم الشافعي فلم يجوّز نسخ القرآن بالسنّة المتواترة ، ولا نسخ السنّة المتواترة بالقرآن(١).
__________________
(١) معارج الأصول للعلامة الحلي ص ١٧٢ ، المسألة التاسعة والعاشرة.