أو حالت الظروف في عدم تحقّقها أو لديمومة استمرارها لأهميتها ، وهذه الغريزة الفطرية ملحوظة حتى عند الحيوانات ، إذ أن أكثرها عند ما يشعر بقرب موته ، ويرى علامات الموت ، فإنه يشيد لأفراخه بيتا محكما ، وعشا رصينا بعيدا عن كل خطر ، فهذا حال الحيوان فكيف بالإنسان الحريص على تحقيق أمانيه ومراميه ، فهل يعقل أن يذهب النبيّ من عالم الناسوت ويترك أمته تتلاعب بها الأهواء وتتقاذفها الشهوات وسطوات الجبارين والظالمين المستبدين يغيّرون دينه ويبدّلون أحكامه وينهبون تراثه؟!
هذا بحسب الفطرة ، وأما بحسب العقل ، فلا شك أن العقل يفرض سيطرته على الإنسان من خلال ما يفكّر به الإنسان نفسه من ضرورة الاهتمام بأموره وتنظيمها وعدم إهمالها ، ويدرك أن عليه تعيين وصي له بعده لحفظها وحراستها لتنظيم آثاره والإفادة منها ويوصي بالمحافظة عليها لكي يتسنى له الإفادة منها بعد موته بنفس المقدار الذي كان يطمع أن يفيد منها في حياته ؛ والعقلاء في العالم ينظرون إلى الشخص الذي يموت بلا وصية تاركا وراءه زوجة وذرّية ومحل تجاري أو مزرعة أو أمر متعلّق بالحكومة أو بالمسائل العلمية ، أو أمثال ذلك بدون تدبير ، ينظرون إلى مثل هذا الشخص نظرة امتهان وازدراء ، ويرونه إنسانا ناقصا ويذمّونه على ترك الوصية على عكس ما لو أوصى وعيّن له وصيا كفوءا خبيرا بصيرا مدبرا يدير شئونه ويتولى أمر ذرّيّته من أولاده الصغار وغيرهم ، فإنهم يثنون عليه ويمجّدونه وينظرون إلى عمله بوصفه عملا إنسانيا.
وأما حكم الشرع الذي شرّع على أساس حكم الفطرة وحكم العقل والوصية في ضوئه حكم ممدوح ومستحسن في جميع الشرائع والأديان. وقد جاءت الوصية في الشريعة الإسلامية المقدّسة التي هي أكمل الشرائع وأتمّها بحدود ومواصفات معيّنة واضحة لا غبار عليها (١) : قال تعالى : (كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ
__________________
(١) الفوائد البهية ج ٢ / ٦٣.