حيّز القبليّة ، وعندها ترتحل هي عن ساهرة الواقع من أسّها ، لا عن حدّ المعيّة فقط. وليس العدم شيئا تعتبر المعيّة بالقياس إليه ، فهو انتفاء شيء ، لا شيء يعبّر عنه بالانتفاء. فلذلك ليس يصحّ أن يحكم عليه ولو بالسّلبيّة وامتناع الوجود ، بل إنّما يؤخذ مفهومه المتمثّل في الذّهن ، وهو ليس حقيقة العدم ، بل مفهوم ما يضع الذّهن أنّه عنوان لتلك الحقيقة الباطلة ، فيعقد الحكم عليه بالسّلبيّة وبالامتناع ، مثلا ، حكما على التّقدير ، لا حملا على البتّ. فكان «ا» وليس «ب» ، لا على التّقدّر ، فوجد ، وصارا معا في الذّهن خارجين عن جنس التّقدّر واللّاتقدّر ، وعن توهّم الحدود والامتداد ، إذ الوجود بما هو وجود لا يتصوّر فيه حدّ وحدّ. ولا يحتمل أين ومتى.
ثمّ هذا التّقدّم من صفات الجاعل الحقّ ، تمجّد قدسه. وليس للعقول النقيّة النّوريّة والأنوار المفارقة العقليّة إلى اكتناه شيء منها من سبيل ، فأنّى للأذهان البتريّة الإنسانيّة والقرائح الغير البشرانيّة تكنيهه وتحديده. وإنّما صيّور الفحص والبرهان يوجبانه : أنّ هناك تقدّما مجهول الكنه مباين الحقيقة ، ومخالف الأحكام للتقدّم الزّمانيّ وسائر التقدّمات ، ضرورة أنّ الحادث اليوميّ متخلّف في الوجود منه ، سبحانه ، بتّة ، ويتعالى كبرياؤه عن التّقدّم الزّمانيّ ، إذ معروضه بالذّات ليس إلّا أجزاء الزّمان ولا يوصف به بالعرض إلّا المتزمّنات.
فإذا علم البرهان [٨ ب] تحقّقه ، وأنّه لا سبيل إلى تعرّفه بالكنه ، كان ذلك سادّا مسدّ المعرفة. فالجهل المعلوم بالبرهان قصيا درجات مراتب العرفان. وهو العلم المأمور به في كتاب الله الأعظم وناموسه الأقوم ، والفارق بين الرّاسخين في العلم من زمرة العاقلين وبين النّفوس المعطّلة من غاغة الغافلين وكذلك الشّأن في سائر صفات البارئ الفاطر ، تعالى عزّه وتعاظم مجده ، فهذا سنن الحكمة النّضيجة السّويّة.
وأما المتهوّسون بالفلسفة النيّة ، فيقولون : هذا السّبق شأن البارئ الأوّل ومفطوراته المبدعة ، من الجواهر العقليّة والمفارقات النّوريّة جميعا. والوهم حيث إنّه ألف الأبعاد ، وصحب الجهات ، ورأى كلّ شيء في زمان ، وكلّ سبق ولحوق على حدّي امتداد ، يصرف العقل ، ما دامت النّفس في دار غربتها ، من عالم الحسّ عن اكتناه الأمر فيه ، فيقاس بالسّبق الزّمانيّ ويوهم الامتداد ، كما يقاس مطلق الموجود بالجسمانيّات ،