ولا تظنّنّ أنّ كونك محلّا لتلك الصّورة شرط في عقلك إيّاها. ألست عاقل ذاتك مع أنّك لست بمحلّ لها ، بل إنّما محليتك لها مصحّحة حصولها لك الّذي هو مناط عقلك إيّاها. فإن حصلت هي لك على جهة وراء الحلول ، لعقلتها من غير حلول فيك. ومن المنصرح : أنّ الحصول للفاعل ، في كونه تقرّرا رابطيا بالإضافة إليه ، أقوى من الحصول للقابل. فإذن المعلولات الذّاتية للعاقل الفاعل بذاته حاصلة له بأعيانها غير حالّة فيه ، فهو عاقل إيّاها بأنفسها وهويّاتها من غير أن تكون متقرّرة فيه.
فإذ قد علمت أنّ البارئ الفاطر عاقل لذاته من غير تغاير بين ذاته وبين عقله لذاته في الوجود إلّا في اعتبار المعتبرين ، ودريت أنّ عقله لذاته علّة لعقله لمفطوره الأوّل الّذي هو من اللوازم الأوّلية لفيّاضيّة ذاته ، فقد استبان لك أنّه كما العلّتان ـ أعني ذاته تعالى وعقله لمفطوره الأوّل ـ شيء واحد في الوجود ، وإن لوحظ تغاير فيهما كان اعتباريا صرفا ، فكذلك المعلولان ، أعني مفطورة الأوّل وعقله إياه ، شيء واحد في الوجود غير معقول فيهما تغاير إلّا الاعتبارىّ الصّرف.
فإذن ، وجود المجعول الأوّل هو بعينه عقل جاعله الحقّ إياه من غير صورة متقرّرة منه فيه ، تعالى عنه. وعلى هذه السنّة وجودات الجواهر العقليّة وما فيها من صور الموجودات [٩٦ ظ] المرسلة والشّخصيّة الكليّة والجزئيّة بأعيان تلك الجواهر والصّور ، وكذلك نظام الوجود على ما هو عليه بقضّه وقضيضه وضرّاته وذرّاته ، إذ الوجود منساق منه ، تعالى ، على الترتيب إلى التفصيل الّذي لا تفصيل بعده وقد تلونا عليك : أنّ كلّا من المعلولات الأخيرة كالكيانيّات وإن لم يكن مستندا إليه في السلسلة الطّوليّة من بدء الأمر إلّا أنّها مستندة إليه ، عزّ اسمه ، في السلسلة العرضيّة ابتداء بالذّات وبالقصد الأوّل.
فكلّ معلول أخيرا في الترتيب ، كما يفتاق إلى الجاعل الحقّ من حيث إنّه علّة علّته ، فكذلك هو ، بما هو يفتاق إليه بالذّات مع عزل النظر عن المتوسّطات ، لكونه من الجائزات ، وطباع الجواز موجب الافتياق إلى الواجب بالذّات بتّة ، فالفاقة إلى القيّوم الحقّ ، والاستناد إليه طباعىّ كلّ ماهيّة ممكنة ، ومن خواصّ كلّ هويّة جائزة. وقاطبة الجائزات بأسرها بحسب هذه الفاقة والاستناد سلسلة عرضيّة منتهية إليه ،